“أي مؤسسة يهودية توافق على تقطيع أوصال الأرض لن تمثل شعب إسرائيل.”[1] مناحيم بيغن.
تجلت التوترات في السياسة الإسرائيلية منذ يومها الأول، أي منذ تحوُّلها من مستوطنات استعمارية تحت حماية الانتداب البريطاني، إلى دولة، بعد إتمامها مشروع التطهير العرقي وفرض الغلبة اليهودية وضمان ثبات المؤسسات الصهيونية. وكان لأهمية المؤسسة في هذه النقاشات أولوية على أهمية الأرض، ونجد أن بن غوريون منذ يومه الأول، كان مهتماً ببناء مؤسسات صلبة تدعمها أغلبية يهودية، بغض النظر عن وحدة الأرض، مؤكداً: “لا أعرف ماذا يعنيه أولئك الحزانى على ‘وحدة الأرض’، إذ إن الأرض لم تكن ‘كاملة’ أبداً في التاريخ اليهودي، فقط في أيدي ‘الغزاة الأجانب’ الذين سيطروا على الأرض والبلاد المجاورة أيضاً،”[2] باعتبار المؤسسة أكثر أولوية من ضمان وحدة الأرض.
متتالية الاحتجاج والانقسام العامودي
الاقتباسات السابقة تضعنا أمام التوترات السياسية التي ما زالت تبرز من خلال الشقوق والشروخ داخل تشكيلات المجتمع الصهيوني الاستيطاني. فنجد أن أحد التوترات يتعلق بـ “وحدة أرض إسرائيل”، ويقابله توتّر هو الحفاظ على “الدولة ومؤسساتها”، وكلا التوترين يرتبط بالهوية اليهودية الصهيونية.
استطاعت هذه التوترات شحن الأجواء منذ “قرار التقسيم” في سنة 1947، لكن بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة. وقد توسّع النقاش في الأولويات، بعد أن تمكنت الدولة الصهيونية من احتلال ما يزيد عن فلسطين الانتدابية، من أراضٍ مصرية وسورية في سنة 1967، وهو ما جعل قاعدة “الأرض مقابل السلام” مسألة تُطرح على طاولة المفاوضات، وخصوصاً عندما قرر مناحيم بيغن عقد اتفاقية سلام بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، ودار نقاش حول ما إذا كانت الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967 (الضفة الغربية وقطاع غزة) جزءاً من اتفاقيات السلام. من هذه النقاشات برز تيار ثالث بقوة، وهو تيار يميني ديني ملحق بالتيار اليميني الأوسع الذي قاده بيغن آنذاك. نما هذا التيار عبر ممارسة استيطان الضفة الغربية وقطاع غزة كجزء من مشروع “إحياء إيريتس يسرائيل التوراتية”، تحت مظلة منظمة “غوش إيمونيم” منذ سبعينيات القرن الماضي، وقد غلّف هذا التيار مفهوم “وحدة الأرض” بتفسيرات ومعانٍ سياسية، وشحنها دينياً.
في المقابل، نستطيع رصد أول احتجاج يحمل إمكانات تصدُّع عامودي، منذ أن وُضعت مسألة “حل الدولتين” في أواخر ثمانينيات القرن الماضي على الطاولة وبدء مفاوضات سرية. وطبعاً، لم تكن التظاهرات أو الاحتجاجات التي جرت، آنذاك، الأولى في نوعها إسرائيلياً، آخذين بالاعتبار احتجاجات الفهود السود، بهدف تحسين أحوال اليهود الشرقيين الاجتماعية والاقتصادية في سنة 1959 وغيرها (انظر: موسوعة المصطلحات الصادرة عن مركز مدار)، لكنها تُعتبر الأولى من حيث أنها تعرّض المجتمع بأكمله للانقسام العامودي غير القابل للحل، إلا عبر الحسم لمصلحة أحد الطرفين.
وقد أصبح مشروع “استيطان الضفة وغزة” في قيد المساءلة، إذ إن المشروع طال عند توقيع اتفاقية أوسلو سنة 1993 ما يقرب من 144 مستوطنة وبؤرة استيطانية في الضفة والقدس وقطاع غزة، وعدد مستوطنيها لا يزيد عن 150 ألف مستوطن، وهم المعارضون الأوائل لأي خطة تقتضي الانسحاب من الأراضي المحتلة. وتلت ذلك احتجاجات واسعة لليمين الصهيوني، في إطار منظمة “هذه أرضنا”، مع ضرورة الأخذ بالحسبان أن مشروع رابين واتفاقيات أوسلو منذ سنة 1993، هدفت أساساً إلى تحييد الضفة الغربية وقطاع غزة عن المشروع الصهيوني وطموحاته، أو لنقُل استبدال الأداة العسكرية بأُخرى مدنية، والحيلولة دون إقامة دولة فلسطينية. وهنا برز توتّر “وحدة أرض إسرائيل” في الشارع، إيماناً بأن “أرض إسرائيل” بأكملها حق حصري للشعب اليهودي، ولا يجب التفريط فيها، أو وضعها على طاولة المفاوضات تحت أي ظرف، كما جاء في معارضة اليمين عموماً، آنذاك.
وظهر توتُّر “وحدة الأرض” جلياً في أثناء “خطة الفصل” سنة 2005، حين أقرّت الحكومة، بقيادة شارون، خطة تفريغ المستوطنات في قطاع غزة نتيجة ضغط المقاومة وضربات الصواريخ وعدم تمكُّن الجيش من حماية المستوطنين داخل قطاع غزة الذي سيطرت عليه المقاومة عسكرياً، نظراً إلى قدرتها على استهداف جميع المستوطنات من دون قدرة إسرائيلية واضحة على صدّها. التغيرات التي طرأت على سياسة شارون بيّنت أهمية هذه التوترات في الصراع الداخلي الصهيوني، كأزمة متجددة منذ فترة “اليشوف” في إبان الانتداب البريطاني.[3] وهو صراع لا يعنينا كفلسطينيين، من حيث أن كلاهما ينتج بالدرجة ذاتها أدوات محو الفلسطيني، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
اليمين في الدفاع عن “وحدة الأرض”
إذا ما صنّفنا الاحتجاجات والأزمات، ليس على أساس درجتها وحجمها، وإنما على أساس إمكان خلقها شروخاً حقيقية في الداخل الصهيوني، بحيث تجعله مكشوفاً أمام القوة الشعبية الفلسطينية، فيمكننا التمييز بين الاحتجاجات على أساس اجتماعي/اقتصادي، كتلك التي جرت في الخمسينيات في حالة “الفهود السود” التي برزت في وادي الصليب، حيفا (1959)، أو حالة “احتجاج الخيام” في سنة 2011، أو الاحتجاجات الاجتماعية التي تركزت في تل أبيب، من جهة، والاحتجاجات المتعلقة بمكونات أساسية للصهيونية، مثل “وحدة الأرض”، كما رأينا في أوائل التسعينيات، عشية اغتيال رابين، أو سنة 2005، عشية تنفيذ “خطة الفصل”، أو احتجاجات سنة 2023 المتعلقة بمؤسسة القضاء، من جهة ثانية.
فبعد شهرين على توقيع اتفاقية أوسلو في أيلول/سبتمبر، عُقد أول اجتماع بهدف تأسيس منظمة قادرة على حشد الجماهير لمنع إنفاذ الاتفاقيات الموقّعة، ويكون أحد أهدافها زيادة البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية وتجهيز بنى تحتية ملائمة لجذب أكبر عدد من المستوطنين. بمعنى آخر، كان الهدف عدم تحييد هذه الأراضي، بل استيعابها كأنها مكوّن أساسي في المشروع الصهيوني.[4]
تأسست منظمة “هذه أرضنا” في تموز/يوليو 1994، بهدف خلق موجة احتجاجات جماهيرية وقيادة عصيان مدني واسع النطاق ضد تطبيق اتفاقيات أوسلو، بالإضافة إلى إنشاء بؤر استيطانية. ومؤسّسا المنظمة هما موشيه فيجلين وشموئيل سكوت، كلاهما من مستوطني الضفة الغربية.[5] سياسة المنظمة المتبعة هي الاحتجاج، عبر إغلاق الشوارع والتقاطعات الرئيسية الأكثر ازدحاماً على مستوى الدولة بأكملها. ومن هنا، انتقل عمل المنظمة إلى داخل الخط الأخضر، لكسب أكبر دعم ممكن لحملتها ضد “التنازل عن الأرض”، وتكللت هذه الخطوة بالنجاح، وكسبت “تعاطُف” المستوطنين في كل أماكن تواجدهم. على سبيل المثال، في آب/أغسطس 1995، تم إغلاق 78 تقاطعاً وشارعاً رئيسياً داخل الدولة، وهو ما اضطر قوات الأمن إلى التدخل لتفريق التظاهرات والحشود. كما استطاعت المنظمة نقل العديد من المستوطنين إلى داخل الضفة الغربية، وبالتالي أصبحت المنظمة على الأجندة الأمنية والسياسية العليا. تبع ذلك العديد من الممارسات الاحتجاجية التي تهدف إلى وقف “عملية السلام”، بصفتها عملية “تنازُل عن الأرض”، وخصوصاً أن المنظور الأساسي هو أن هذه العملية تحيّد أولويات اليمين في المشروع الصهيوني، وحُسم هذا بدرجة معينة عند اغتيال رابين.[6]
ومن ناحية أُخرى، اعتُبرت احتجاجات سنة 2005 أيضاً ممارسة لمنع “التنازل عن الأرض” وتثبيت مفهوم “كماليتها وقداستها” التوراتية، لكن هذه المرة بمواجهة مع أحد أقطاب اليمين الكلاسيكي، وهو أرييل شارون الذي برز في تسعينيات القرن الماضي كأحد المدافعين عن “وحدة الأرض”، لكنه تبنّى أولوية المؤسسة موقتاً، وخصوصاً الجيش والأمن، على أولوية الأرض، وبصورة خاصة بعد أن أدرك خلال الانتفاضة الثانية أن الجيش لا يستطيع حشد جميع موارده وطاقاته من أجل 10 آلاف مستوطن داخل قطاع غزة. ورافق تنفيذ خطة شارون، للانسحاب من قطاع غزة، تظاهرات واحتجاجات واسعة من المستوطنين واليمين عموماً ضد القرار والجيش، وشهدت إسرائيل انقساماً حاداً، آنذاك، على أساس توتّر “وحدة الأرض”.
اليسار متأرجحاً: 2023 كفاصل تاريخي
بعد عامين على صعود بنيامين نتنياهو إلى السلطة في سنة 2009، قرر بعض النشطاء في تموز/يوليو 2011 بدء “احتجاجات الخيام” على أساس اجتماعي/اقتصادي، وخصوصاً غلاء قطاع الإسكان، وغلاء المعيشة، وبدأ “اليسار وشرائح يمينية” بالتكتل حول أولوية المؤسسة. وعلى الرغم من أن الاحتجاجات، آنذاك، لم تتخذ طابع انقسام عامودي بسبب التمركز حول قضايا الغلاء والتدهور المعيشي، فإنها كانت بداية المعارضة وتشكيل أحزاب وكتل حزبية جديدة تمثل التيار الجديد “يش عتيد” (2012)، و”المعسكر الصهيوني” (2014)، ثم سلسلة من الأحزاب والتحالفات، مع صعود “الجنرالات الجدد” من سنة 2018، وعلى رأسهم بني غانتس الذي ما زال إلى اليوم يلتزم، سياسياً، الحفاظ على الدولة ومؤسساتها وتقاليدها.
بيْد ان المسألة التي يجب أن ننتبه إليها من منظورنا الفلسطيني، هي أن الصراع اليوم ليس متعلقاً فقط بالتهم الموجهة إلى نتنياهو، بل يجب أن ننظر إلى البعد الأعمق للصراع المتعلق بالأولويات. فالاحتجاجات الراهنة تنطوي على انقسام واضح على أساس التوتر القائم ما بين “أولوية الأرض” و”أولوية المؤسسة”، باعتبار القضاء أحد أعمدة هذه المؤسسة والدولة الصهيونية، وأي محاولة مسّ به تُعتبر بمثابة تغيير في “هوية الدولة”.
ولكن، لماذا يهتم اليمين الصهيوني، الذي يقوده “حزب الليكود” وأحزاب “الصهيونية الدينية”، منذ عقد على الأقل (قبل توجيه المدعي العام ثلاث تهم فساد إلى نتنياهو)، بمؤسسة القضاء؟ نحن نذكر محاولات وزيرة القضاء أييلت شاكيد (2015- 2019) تغيير قضاة المحكمة العليا، باعتبارهم خاضعين لتيار اليسار وأولوياته، علماً بأن شاكيد، كجزء من كتلة اليمين، آنذاك، حاولت إعادة صوغ “المؤسسة” لمصلحة الأرض والتوسع في الضفة الغربية.
تعلو أصوات المعارضين في تل أبيب راهناً، ليس بخصوص مسألة حقوقية، ولا علاقة لها بـ “حقوق الإنسان”. فلا يوجد اكتراث في شوارع تل أبيب اليوم بجميع انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها “الدولة” منذ ميلادها، بل على العكس، هم موجودون في الشوارع، بهدف تعزيز هذه الدولة ومؤسساتها وتقاليدها، وما يهمهم هو ديمومة هذه “الدولة” ومظهرها وهويتها “الليبرالية الديمقراطية” أمام العالم. بالتالي، تطويع “المحكمة العليا” للحكومة وسياستها يعني تطويع “المؤسسات” لمفهوم وهدف “وحدة الأرض وكماليتها المقدسة”، أو يعني، كما تراه المعارضة في هذه اللحظة الراهنة، خضوعاً لأهداف نتنياهو الضيقة ومصالحه في التهرب من فساده. نرى ذلك بوضوح أيضاً خلال محاولات الوزراء تطويع المؤسسات المتعلقة بالشرطة والجيش، والتربية، والتعليم والصحة. ولكن تختلف درجة الحدة، وفقاً للمفاوضات الجارية، على سبيل المثال، إيتمار بن غفير استطاع تطويع مؤسسة الشرطة والأمن الداخلي، عبر مفاوضات ومحادثات وكسب أمور وتنازُل عن أُخرى، بينما لا يزال بتسلئيل سموتريتش يفاوض بشأن تطويع مؤسسة الأمن والجيش وإيجاد معادلات للعمل، علماً بأننا قد نرى تصعيداً من المؤسسة الأمنية لاحقاً، حسبما ستجري التغييرات المرتقبة في مؤسسة القضاء.
[1] مقالة مناحيم بيغن بشأن “خطة التقسيم”، نُشرت في 3 أيلول/سبتمبر 1947.
[2] المصدر نفسه.
[3] انظر: هنيدة غانم، “صعود أقصى اليمين الإسرائيلي.. الخلفية والإسقاطات”، “المشهد الإسرائيليّ” ، مركز مدار (6/11/2022). الرابط هُنا. المقالة توضح سياقات الصراع التي نشأت منذ فترة “اليشوف”، أي فترة امتداد الاستيطان في إطار السيطرة الانتدابية الاستعمارية البريطانية.
[4] انظر: موشيه فيجلين، “حيثما لا يوجد شعب” (متسودا، 1997)، باللغة العبرية؛ يوثّق فيه الكاتب أهم المجريات التي حدثت في أثناء “النضال” ضد اتفاقيات أوسلو، وتحليلاته إزاء هذهِ الخطوات، باعتبارها كارثة تحل على الشعب اليهودي، أضف إلى أنه يعتبرها “غير ديمقراطية” من قِبل الحكومة.
[5] شيلا فريد، تقرير “لو كانت هناك إجراءات أكثر جرأة ، لكان من الممكن منع خطة الفصل”؛ نُشر على موقع “مكور ريشون” (9 شباط/فبراير 2023)، باللغة العبرية
[6] تقرير “دولة مغلقة”، “يديعوت أحرونوت” (9 آب/أغسطس 1995).
محمد قعدان – مؤسسة الدراسات الفلسطينية