العالم يتأرجح على حافة «الركود».. ما الذي تحكيه أهم المؤشرات الاقتصادية عن عام 2023؟

يمر اقتصاد العالم اليوم بحالة استثنائية، فقبل التعافي من جائحة كورونا دخل العالم في دوامة الحرب الأوكرانية، وطرأت مخاوف متجددة من تباطؤ اقتصادي في الصين قد يؤثر في النمو العالمي، ومخاوف أخرى من الانزلاق في ظاهرة «الركود التضخمي – Stagflation» التي تجمع بشكل غير معتاد بين ارتفاع الأسعار والنمو الضعيف.

ومع نهاية عام 2021، كان متوقعًا أن يستكمل الاقتصاد العالمي مرحلة التعافي من الجائحة، مع توقعات متفائلة تتحدث عن نمو بنسبة 6%، يتبعها نمو متفائل نسبته 4.7% لعام 2022، وانخفاض إلى نسبة 3.8% عام 2023. وذلك وفقًا لتوقعات الأشهر الأخيرة من عام 2021.

فكيف تغيرت التوقعات الاقتصادية العام الحالي؟ وما النمو الذي حققه العالم خلاله؟ وما توقعات عام 2023؟ وكيف تبدو الصورة في مراكز العالم الاقتصادية تحديدًا في أمريكا وأوروبا والصين؟

من آمال التعافي إلى مخاوف الركود
إذا أردنا فهم الأثر الكبير لمفاجآت العام الحالي، فعلينا مقارنة توقعات النمو المذكورة سابقًا، بالتوقعات التي أُصدرت مؤخرًا. فالنمو العالمي الذي كان متوقعًا نهاية عام 2021 أن يبلغ نحو نسبة 4.5% عام 2022، يبدو أنه لن يتجاوز 3.2% وفقًا لما نشره صندوق النقد في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. بينما أصبح متوقعًا أن ينمو الاقتصاد العالمي بنسبة 2.7% في عام 2023، نزولًا من 3.8%.

تحتل دول الغرب الرئيسية مراكز متقدمة في انخفاض معدلات النمو المتوقع أنها حققتها خلال العام الحالي، والمتوقع تحقيقها العام القادم. رغم أن حرب أوكرانيا لم تنتهِ بعد، فيبقى احتمالية أن ينتج منها آثار أخرى كثيرة قد تؤدي لتفاقم الوضع الحالي.

بعد الأزمة المالية العالمية عامي 2007 و2008، أصبح النمو في كل من أوروبا والولايات المتحدة ضعيفًا، بمعنى أنَّ معدلات النمو الحقيقي ليست سالبة بالمتوسط، ولكنها ضعيفة، وغير قادرة على تحقيق معدلات مرتفعة كالتي تحققها الصين مثلًا، والملاحظ أن دول أوروبا كانت أكثر سوءًا من أمريكا.

والواضح أن الأزمة الحالية متجهة لأمر أكثر سوءًا مما كان عليه الوضع منذ الأزمة المالية العالمية وحتى عام الجائحة، فالمتوقع أن الولايات المتحدة ستسجل نموًّا حقيقيًّا نسبته 1.8% لهذا العام، متبوعًا بـ0.5% في عام 2023، ثم 1% عام 2024. وهذه النتائج أسوأ بشكل كبير جدًّا من حالة الضعف بعد الأزمة المالية العالمية، وقريبة جدًّا من الانزلاق في فخ النمو السالب.

يتمثل الخطر الأكبر بحصول النمو السالب مع بقاء معدلات التضخم مرتفعة؛ فرغم أنها بدأت بالتباطؤ مؤخرًا، ونزلت في أكتوبر إلى نسبة 7.7% بعد أن كانت أعلى من 8% لمدة سبعة شهور، وتجاوزت نسبة 9% في شهر واحد، والمتوقع أن تظل المعدلات أعلى من نسبة 5% حتى نهاية الربع الأول من العام القادم. ومن المعروف أنَّ نسبة التضخم الصحية يجب أن تكون نحو 2% فقط على المدى البعيد.

لا يختلف الوضع كثيرًا في أبرز دول أوروبا الغربية، فالمنطقة الأوروبية بالعموم يتوقع أن تسجل نموًّا بنسبة 3.3% العام الحالي 2022، ونسبة 0.5% عام 2023، و1.4% في عام 2024، وهذه النتائج أعلى من متوسط ما ستحققه كل من ألمانيا، وفرنسا، أو بريطانيا التي ليست ضمن الاتحاد الأوروبي.

فألمانيا ستحقق 1.8% العام الحالي، وسالب 0.3% في 2023، و1.5% في 2024. أما فرنسا فستحقق 2.6% العام الحالي، و0.6% عام 2023، و 1.2% عام 2024. بينما يتوقع أن يكون العام الحالي جيدًا لبريطانيا بنسبة 4.4%، وأسوأ من البقية في العامين اللاحقين بسالب 0.4% عام 2023، و0.2% في العام اللاحق.

أما بالنسبة للتضخم فالوضع في أوروبا أسوأ من أمريكا؛ ولا يتوقع أن تصل منطقة أوروبا إلى نسبة 5% إلا نهاية عام 2023، مع بقاء الدول الأوروبية أكثر عرضة لتقلب اقتصادها، واختلاف توقعاتها مع استمرار الحرب في أوكرانيا، بل إن الفترة الأخيرة شهدت تطورًا جديدًا فيما يتعلق بالطاقة قد يدفع نحو تخفيض التوقعات الاقتصادية العالمية والأوروبية تحديدًا.

التطور الأخير هو توافق وزراء الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع، وأستراليا، على وضع حد أعلى للنفط الروسي عند 60 دولارًا للبرميل الواحد، بهدف تخفيض عائدات النفط للتأثير في مساعي موسكو العسكرية في أوكرانيا، وتعميقًا لآثار العقوبات، بينما تدرس روسيا وضع حد أدنى لسعر نفطها إجراءً مضادًا؛ ما يعني منع بيعه للدول المطبقة للحد الأعلى، ومن ثم إمكانية عودة أسعار النفط للارتفاع مرة أخرى.

هذا كله يناقض آمال التعافي السابقة لحرب أوكرانيا، ويظهر أن العقوبات والإجراءات الغربية لن تضر روسيا وحدها، بل يمكن أن يتفاقم أثرها لاحقًا على أوروبا والولايات المتحدة، خصوصًا مع ملاحظة انخفاض التوقعات تدريجيًّا، بينما تتحسن التوقعات تدريجيًّا لصالح روسيا؛ والتي تُوقع لها بداية الحرب أن تحقق نموًّا سالبًا نسبته 8.5 عام 2022، وبنسبة سالبة أيضًا تبلغ 3.5% عام 2023، وأصبحت التوقعات تقول إن النمو السالب الروسي في العام الحالي لن يتجاوز 3.5%، وسيكون سالبًا بنسبة 2.3% في 2023 أيضًا، وقد تتحسن هذه النسب إذا تمكنت موسكو من الالتفاف أكثر على العقوبات، وتحقق ما تأمله من تقسيم العالم لمجال غربي وآخر مُعادٍ للغرب.

لكن الصورة العالمية لا تكتمل إلا بفهم توقعات أهم المساهمين في النمو العالمي، وثاني أكبر اقتصاداته، والذي يواجه ظروفًا خاصة بتخوفات مشابهة.

تعثر عابر في الصين؟ أم تراجع كبير عن النمو؟
يمثل الاقتصاد الصيني 18.5% من إجمالي الاقتصاد العالمي، وتساهم بـ30% من إجمالي النمو العالمي، أي أنها تساهم بالنمو بأكبر من حصتها من الناتج، ما يعكس أهميتها وقدرتها الأكبر على دفع عجلة الاقتصاد العالمي مقارنة باقتصادي أمريكا وأوروبا الأكبر منها حجمًا ولكن الأبطأ نموًّا.

ويظهر تشابك الاقتصاد الصيني مع الاقتصاد العالمي بكونها صاحبة أكبر حصة من التجارة في العالم، فالصين تمثل 13.45% من إجمالي صادرات العالم، وتتبعها الولايات المتحدة بـ9% تقريبًا، بينما تعد ثاني أكبر المستوردين في العالم بنسبة 11.4%، بعد الولايات المتحدة بنسبة 13.9%.

وهذا يعني أن التباطؤ في الصين ينعكس تباطؤًا عالميًّا، ويكفي ألا تحقق الصين معدلات نمو مرتفعة حتى ترتفع احتمالية دخول اقتصادات أخرى في الركود والنمو السالب، وربما في أزمة اقتصادية عالمية حتى.

في أكتوبر الماضي كان يبدو أن الصين أصبحت على مسار وضع سياسة الإغلاقات وراءها، والدخول في مسار التعافي الاقتصادي والعودة لمعدلات نمو، بعد أن تسببت بحرمان الصين من النمو في ربع السنة الثاني، وكان المتوقع أن ينتهي العام الحالي بنمو يساوي 3.2%، ليتسارع النمو في عام 2023 إلى 4.4% وفقًا لصندوق النقد الدولي، رغم أن هذه الأرقام مرتفعة مقارنة بالدول الغربية، لكنها منخفضة جدًّا مقارنة بنسب النمو الصينية المعتادة؛ والتي لم تهبط عن 6% منذ ثلاثة عقود باستثناء عام الجائحة.

لا يمكن فهم الحاصل اليوم في الصين بالطريقة نفسها التي نفهم فيها ما يحصل في الدول الغربية، فللقيادة السياسية في الصين دور أكبر في اقتصادها، ولهذه القيادة يد فيما يحصل اليوم.

ترجع جذور المشكلة القائمة اليوم إلى إستراتيجيات الرئيس الصيني شي جين بينغ، والتي ترى أن الاقتصاد الصيني حقق بالفعل إنجازات مهمة في العقود السابقة، ولكن هذه الإنجازات حصلت على حساب اختلالات في الاقتصاد، والدور اليوم جاء لمعالجة هذه الاختلالات، ولو كان ذلك على حساب النمو الاقتصادي؛ والذي يرى الرئيس الصيني أنه كان مضخمًا أصلًا وبإنتاجية منخفضة مقارنة بحجمه.

وهو ما يقودنا إلى المشكلة الأولى المتمثلة بقطاع العقارات، وأبرزها مشكلة شركة «إيفرجراند»، ولكنها تتعداه إلى أسباب أخرى أهمها سياسة «صفر كورونا» التي ما تزال تتسبب بإغلاقات في الصين حتى اليوم، بخلاف توقع الصندوق لتخفيفها تدريجيًّا لتحقيق نمو 4.4% السنة القادمة، قرار الدولة المركزية عدم إجراء الكثير لتحسين هذه الأرقام والتركيز على حل الاختلالات كما تقدم.

تسببت سياسة الإغلاقات باحتجاجات في الصين، كما أنها امتداد للإغلاقات السابقة، وأبرزها إغلاقات مدينة شانغهاي، والتي كان يديرها آنذاك رئيس الوزراء الحالي لي شيانغ، والذي كان متوقعًا ألا يصل إلى منصبه الحالي بسبب عدم شعبية الإغلاقات في شانغهاي، وعُد تنصيبه دليلا على تقديم الولاء على الكفاءة.

ولكن شي جين بينغ يبدو مصممًا على تنفيذ خططه كما تبين في مؤتمر الحزب الشيوعي الأخير، ومنها تركيزه للسلطة بيده أكثر، وحكمه للفترة الثالثة على خلاف الأعراف العامة في الصين، وإخراج جميع رجال التيارات المناوئة له، مع تزايد التوتر بخصوص تايوان والتجارة؛ ما قد ينتج منه إجراءات أكثر حدة من قبل الصين بالابتعاد عن السوق الحرة، خصوصًا مع مخاوفها من إمكانية أن يحاول الغرب معاقبة الصين بصورة مشابهة لما يحصل اليوم مع روسيا.

لهذا كله؛ فإن ما قد يراه المراقبون الغربيون فشلًا اقتصاديًّا، مع مخاوفهم من انتقال المشكلة من الصين إلى العالم، قد يراه الصينيون مرحلة انتقالية ضرورية، ينخفض فيها النمو، ولكن تعالج فيها الاختلالات الاقتصادية، دون اهتمام من القيادة الصينية بما يمكن أن يحدث خارج حدودها، مع شعبية هذه الإجراءات الصينية في تركيزها على علاج مشكلات تهم العامة مثل برنامج استئصال الفقر المدقع، وعموم سياسات شي جين بينغ نحو توزيع أفضل لعوائد النمو بدلًا من البحث عن تضخيمه فقط، ما يعني أن الوضع الحالي قد لا يكون تعثرًا عابرًا فقط.

الدول النامية تدفع الثمن
هناك دول أخرى في العالم لا تصنع الواقع الاقتصادي بقدر ما يُفرض عليها، ورغم أن الصين من الدول النامية بالفعل؛ فإن حجمها الكبير ومعدلات نموها تجعلانها خارج هذه المعادلة.

إذا كانت الولايات المتحدة وأوروبا تدفعان ثمن توجهاتهما السياسية في أوكرانيا، وفي نفس الوقت تستطيعان احتمال وقوع الألم اقتصاديًّا لبضع سنوات فإن دولًا أخرى في العالم لا تستطيع احتمال ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، بل خطر عدم توافر بعض المواد الغذائية أيضًا.

وكذلك فإن كثيرًا من الدول تعتمد في نموها على استمرار عجلة النمو الاقتصادية العالمية المعتمدة على الصين بصفتها مصنعًا للعالم، ولا تستفيد هذه الدول من الإصلاحات الاقتصادية التي يريد تطبيقها الرئيس الصيني، ولكنها ستتأثر اقتصاديًّا إذا ما استمر تباطؤ الصين.

يظهر أثر الوضع الحالي جليًّا عند دراسة تأثير تعديل السياسة النقدية في الولايات المتحدة على دول مثل تركيا ومصر، والتي كانت تعتمد على أسعار فائدة مرتفعة مقارنة بالدول الغربية، ما يجتذب رؤوس أموال خارجية، ولكن هذه السياسة لم تعد قادرة على الاستمرار في ظل رفع أسعار الفائدة الأمريكية، ومعها أسعار فائدة بنوك مركزية رئيسية أخرى، وذلك لمحاربة التضخم العالمي.

في الوقت نفسه الذي تتسبب فيه خطوات البنوك المركزية الرئيسية بجذب الأموال خارج كثير من الدول النامية، فإن رفع أسعار الفائدة يعني مخاطرة أكبر بتوقعات النمو في الدول المركزية، والتباطؤ في هذه الدول يعني تباطؤا عالميًّا، وهو ما يعني نهاية تأثيرًا سلبيًّا في الدول النامية التي تحتاج نموًّا عالميًّا محركًا لنمو اقتصاداتها.

تقف أسعار الفائدة الأمريكية اليوم عند 3.75%، والمتوقع أن تستمر بالارتفاع العام القادم، حتى تصل قمتها عند 4.5% وفق توقعات الفيدرالي الأمريكي، مع إمكانية زيادتها أكثر من ذلك إذا ما استمرت معدلات التضخم المرتفعة.

يرتبط سعر العملة بسعر الفائدة بشكل كبير، فعلى المدى القصير يعني ارتفاع سعر الفائدة جاذبية أكبر للاستثمار في عملة البلد التي ترفع سعر فائدتها، وذلك يعني أن الدولار سيبقى ضمن معدلاته المرتفعة، بل قد يعود للارتفاع مرة أخرى بعد انخفاض نسبي – ما زال أعلى من معدلات ما قبل حرب أوكرانيا، وهذا يعني ارتفاع تكلفة قروض الدول النامية؛ إضافة إلى اضطرار كثير منها لرفع أسعار فائدتها، والذي يؤدي بدوره إلى ارتفاع تكلفة اقتراضها محليًّا.

يعني ذلك ارتفاع عبء الديون على الدول النامية، ومعه ارتفاع حاجة هذه الدول للتمويل بشكل أكبر، ومع ارتفاع أسعار الفائدة فإن القروض الجديدة ستكون أعلى ثمنًا، ولكن كثيرًا من الدول النامية لن تستطيع تجنب المزيد من الاستدانة ولو بكلفة أعلى.

كلفة الحرب الأوكرانية على الطاقة والغذاء تستمر بحدة أقل
أصبح معلومًا أثر الحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية على روسيا، على كلف الطاقة والغذاء، كما أن العالم بدأ يتكيف مع هذه الآثار، ومن ثم فإن سعر النفط مثلًا، انخفض لأقل من 80 دولارًا للبرميل الواحد بعد أن وصل إلى قرابة 140$ العام الحالي.

تؤثر في أسعار النفط عوامل مختلفة تحركها في اتجاهات متناقضة، فعلى مستوى العرض تقوم العقوبات الغربية على روسيا التي تعد أحد أهم منتجي النفط بتقليل ما يمكن لروسيا عرضه في السوق، وتقليل العرض يعني ارتفاع السعر، ويضاعف ذلك رفض السعودية لرفع إنتاجها لتعويض المفقود من النفط الروسي في السوق العالمي، بل تخفض إنتاجها ما يفاقم الأزمة، ومع ذلك تستمر عقوبات الغرب بحرمان السوق العالمية من النفط الإيراني بديلًا محتملًا، مع عدم التوصل لاتفاقية بخصوص الملف النووي الإيراني.

على النقيض من ذلك فإنَّ الولايات المتحدة ضخت من مخزونها النفطي الإستراتيجي في السوق العالمية لزيادة المعروض وتخفيض السعر، وحثت دولًا أخرى حليفة لها على فعل ذلك أيضًا، ورغم أن هذه السياسة نجحت نسبيًّا فإن ذلك كان على حساب مخزونات الولايات المتحدة التي قد تحتاجها مستقبلًا ولا تجدها بسبب سياستها الحالية.

أما من جهة الطلب فإن مخاوف الركود تفيد في تخفيض سعر النفط، فالتباطؤ الاقتصادي يعني استهلاكًا أقل للوقود اليوم، واحتمالات أكبر لتخفيضه في المستقبل أيضًا، وهذا يعني تخفيضًا للسعر، خصوصًا من قبل مستهلكي النفط الأضخم في العالم؛ مثل الولايات المتحدة التي تستهلك خمس النفط العالمي، والصين التي تستهلك 13% منه.

النتيجة النهائية لتفاعل هذه العوامل المختلفة هو أن التوقعات تصب في صالح ارتفاع سعر النفط في عام 2023 عن مستواه الحالي، والذي يعد مستوى جيدًا مقارنة بما وصل إليه سابقًا هذا العام، ولكنه ما يزال يعد مستوى مكلفًا، لا سيما مع حاجة العالم لكلف أقل لتجاوز أزمة التضخم، ودفعةً لتحريك عجلة الاقتصاد بشكل أكبر وتحقيق التعافي الكامل من آثار الجائحة.

لكن أفضل التوقعات ترى أن السعر المتوسط للنفط في عام 2023 سيكون حول 95 دولارًا للبرميل الواحد، أي أعلى بـ15 دولارًا من المستوى الحالي، هذا كله على فرض عدم حدوث مفاجآت قادمة فيما يخص الحرب في أوكرانيا، أو في سياسة أوبك والسعودية تحديدًا فيما يتعلق بحجم إنتاج النفط وخلافها مع إدارة الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن.

والحال نفسه ينطبق على الغاز، خصوصًا في أشهر الشتاء القادمة، والتي يرتفع فيها الطلب على الغاز، خصوصًا في أوروبا، مع تفاقم أزمات إمداد الغاز الروسي، وعدم توفير بديل كافٍ له.

أما فيما يتعلق بالقمح؛ فقد كان سعره 7.7 دولارات بداية عام 2022، وهو معدل مرتفع أصلًا مقارنة بمعدلات أسعار القمح في السنوات الخمس الماضية، والمتوقع أن ينتهي العام الحالي بمتوسط سعر قمح عند 9.33 دولار، وأن يكون متوسط السعر في العام القادم 8.6 دولارات، ما يعني تخفيض حدة الأزمة مع استمرارها.

يتوقع أن تستمر تأثيرات حرب أوكرانيا في الأعوام القادمة، وسيظهر أثرها عن طريق قنوات اقتصادية ثلاثة؛ الأولى هي العقوبات المالية التي قد تدفع العالم نحو تقسيمه لمجالين اقتصاديين تقود الولايات المتحدة أحدهما، وتقود الصين بالدرجة الأولى وروسيا بالثانية المجال الآخر، لكن ما لم يحصل حدث ضخم مثل ضم الصين لتايوان فلن نرى نتائج كبيرة وملموسة لمثل هذا التوجه العام القادم.

وقناتان متبقيتان هما أسعار السلع مثل النفط والقمح كما تقدم، والتجارة العالمية وسلاسل التوريد التي لم تتعاف بشكل كامل منذ جائحة كورونا، والتي تزايدت الضغوطات عليها منذ بدء حرب أوكرانيا، وتزيد العقوبات الغربية على روسيا من سوئها، خصوصًا مع تزايد التوترات وتعمق الحرب التجارية مع الصين.

العام الأول من تجربة حل قديم في مصر
توصل صندوق النقد الدولي والحكومة المصرية لاتفاق مبدئي على برنامج جديد للصندوق في مصر، تُمنح مصر بموجبه قرضًا جديدًا بقيمة 3 مليارات دولار على 46 شهرًا، واضطرت مصر بسببه لخفض قيمة الجنيه مرتين بالفعل، وذلك لمحاربة آثار التضخم، وجذب رؤوس الأموال الخارجية ومنع تدهور موقف مصر الاقتصادي مع الخارج، وخصوصًا استنزاف الاحتياطي الأجنبي.

رغم أن مصر كانت من بين الدول القليلة التي تحقق نموًّا موجبًا عام الجائحة بجانب الصين، وتحقيقها معدلات نمو إيجابية في السنوات السابقة، بل تحقيقها معدل نمو بنسبة 4.4% العام الحالي، وتوقعات نموه بنسبة 5.2% العام القادم، واستمرار تسارع نموه في الأعوام اللاحقة، فإن كل ذلك لم ينقذ مصر من عودة الحاجة لقروض الصندوق للأسباب نفسها عام 2016، وبشروط مشابهة، مع تصدرها لقائمة أعلى خمس دول في مخاطر التعثر عن دفع الديون السيادية عام 2022.

وكالعادة فإن المتوقع أن تضطر مصر لتطبيق إجراءات تقشف جديدة، تخفض فيها الإنفاق على بند الحماية الاجتماعية في الميزانية، وربما ترفع من الضرائب المحصلة، وهي الإجراءات المعتاد فرضها مع برامج صندوق النقد الدولي؛ بالتوازي مع محاولة تحرير الاقتصاد المصري بشكل أكبر عن طريق فرض بيع أصول لشركات مملوكة للدولة والجيش المصري، مع عدم وضوح حجم مثل هذه العمليات؛ أو إن كانت ستطبق بالفعل أم لا.

أما بالنسبة للتضخم فقد بلغت نسبته 16.2% في أكتوبر من العام الحالي، وهذا لا يعكس بشكل كامل أثر التخفيض الجديد لسعر الجنيه، ولكن المتوقع أن يعاود التضخم الانخفاض إلى أقل من 10% مع نهاية العام المالي القادم، والذي يبدأ منتصف سنة 2023.

تعد مشكلة عجز الميزان التجاري المصري إحدى مشكلاته المزمنة، والمتمثلة بارتفاع قيمة المستوردات عن الصادرات، وانخفاض قيمة الجنيه يعني ارتفاعًا في أثمان المستوردات، وانخفاضًا في أثمان الصادرات، ونظريًّا يمكن أن يؤدي ذلك إلى تحسين وضع الميزان التجاري عن طريق زيادة تنافسية الصادرات المصرية ومن ثم زيادة الطلب عليها، مع تخفيض الطلب على المستوردات.

لكن التجربة السابقة لمصر بالكاد ساعدت البلاد لتخفيض عجز حسابها الجاري لعامين متتاليين (2017-2018) قبل عودته للانخفاض مجددًا. وبينما كانت أسوأ نتيجة للحساب الجاري المصري هي ما حققه في عام 2016 بعجز بلغ 20 مليار دولار، فإن الشهور التسعة الأولى من عام 2022 تظهر عجزًا تجاريًّا بقيمة 24 مليار دولار؛ ما يعني أن الاقتصاد لم يستفد من تخفيض سعر الجنيه.

يعود ذلك إلى عدم قدرة مصر على التخلص من المحتوى الخارجي في صادراتها؛ ما يعني أن ارتفاع قيمة المستوردات يعني ارتفاع قيمة مدخلات إنتاجية في صادراتها، ومن ثم ارتفاع قيمتها، مع عدم القدرة على استبدال استيراد كثير من المنتجات بإنتاج محلي، ويتضح ذلك جليًّا في مسألة القمح.

الخلاصة هي أن مصر ستشهد العام الأول من تجريب برنامج جُرِّب سابقًا، لم يفشل البرنامج فحسب في استدامة نتائجه ومنع مصر من الاستدانة مرة أخرى، بل إنه يعود ليرفع الضغوط عن كاهل الفئات الأكثر هشاشة وفقرًا في مصر، كل ذلك في ظل تحقيق معدلات نمو إيجابية من الواضح عدم توزيع عوائدها بشكل يقي هؤلاء من المزيد من التهميش والإفقار.

ساسة بوست

اساس