صبح القمح اليوم حديث الساعة في السياسة العالمية؛ ولا يكاد يمر يوم دون استنكار جهة ما لاستخدام روسيا القمح سلاحًا في حربها ضد أوكرانيا واستخدامه ورقة ضغط، في محاولة لإجبار الغرب على التراجع عن العقوبات الاقتصادية القاسية المفروضة عليها.
فمنذ أن أغلقت روسيا بحر أزوف أمام سفن الشحن المحمَّلة بملايين الأطنان من القمح الأوكراني، ثم أخذت في تفجير ومداهمة بعض مخازن القمح وحرق بعض حقوله عمدًا وفقًا للرواية الأوكرانية، والعالم في أزمة تتصاعد يومًا بعد يوم، خاصة بعد إعلان الهند وقف تصدير القمح بسبب موجات الحرارة الشديدة التي أثرت في إنتاجها، الأمر الذي يضع أكثر من مليار شخص على حافة الخطر.
لكن ما الذي يجعل القمح بهذه الأهمية الاستثنائية؟ وهل إجماع العالم على استنكار ما تفعله روسيا ورفضه يرجع إلى أن هذه هي المرة الأولى لاستخدام القمح سلاحًا سياسيًّا؟ وما طبيعة ومستويات علاقة القمح بالسياسة بشكل عام؟
القصة من البداية: أهمية القمح وتطور أنماط استهلاكه
القمح، أو «سيد الحبوب» كما يطلق عليه أحيانًا، هو الغذاء الرئيسي لعدد كبير من شعوب العالم، والتي تشمل روسيا، وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، وأستراليا، وأوروبا، وكندا، والولايات المتحدة، وعددًا من دول أمريكا الجنوبية. فنحو نصف السعرات الحرارية المستهلكة يوميًّا في العالم تُستمد من الحبوب، ويأتي ربع هذه الكمية تقريبًا من القمح. لذلك يعد القمح ثاني أكثر سلعة سياسية في العالم بعد النفط، وربما كان الأول بطبيعة الحال قبل اكتشاف النفط.
يمتلك القمح عددًا من الميزات التي تُسهِّل شحنه وتخزينه: فهو لا ينكسر بسهولة ويمكن الحفاظ عليه إلى أجل غير مسمى طالما ظل بعيدًا عن الرطوبة والقوارض، بالإضافة إلى تنوع المنتجات التي تخرج منه. يُزرع القمح أيضًا في مساحة أكبر كثيرًا من أي محصول آخر، مما يجعله أكثر الحبوب تداولًا ويُستهلك على نطاق واسع حتى في أماكن يكاد يكون من المستحيل زراعته فيها، إذ يُزرع القمح حاليًّا في نحو 120 دولة، لكن الأمر لم يكن هكذا دائمًا؛ إذ تعد ظاهرة عولمة استهلاك القمح حديثة نسبيًّا.
يرجع أقدم تاريخ معروف لزراعة القمح وتدجينه إلى 10 آلاف عام، في منطقة الهلال الخصيب. وتعد منطقة الشرق الأوسط من أقدم الأماكن التي لم يتغير نمط استهلاكها. وإذا رجعنا لقصة رؤيا عزيز مصر التي عبَّرها له النبي يوسف، والتي وردت في الكتب السماوية، نجد أن العزيز قد رأى: ﴿سَبْع بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ﴾ وكان تفسير الرؤيا، أن البلاد ستمرُّ بسبع سنين طبيعية ثم تأتي عليها سبع سنوات عجاف لا زرع فيها ولا ماء! ما يعني أن القمح بالفعل كان هو الغذاء الرئيسي لأهل مصر منذ هذه الفترة التي مر عليها ما يقارب 3 آلاف عام، وأن القصة تدلل على الدور الحيوي الذي يلعبه القمح في الحياة السياسية واستقرار البلاد ورخائها؛ فتخزين القمح وتوفره سيكون سببًا كافيًا لمرور البلاد من المحنة.
في حين يختلف الوضع في أوروبا مثلًا؛ ففي عام 1750م كان القمح بالكاد يستخدم في شمال وشرق ووسط أوروبا، ولم يكن النوع الوحيد من الحبوب الذي يُستهلك في دول حوض المتوسط. وفي منتصف القرن التاسع عشر تغير الأمر قليلًا، إذ أصبح القمح هو نوع الحبوب المفضلة في عدد من الدول وهي: إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا وبلغاريا واليونان. وبداية من عام 1850 بدأ استهلاك القمح يزيد باطراد كبير حتى نهاية الحرب العالمية الثانية؛ حين انفرد القمح بتفضيل أغلب سكان القارة حتى الآن.
القمح والسياسة: قصة «حبة» تربعت على عرش «السلع السياسية»
إذا كان النفط قد تربع على عرش السلع السياسية في القرن العشرين ولا يزال حتى اليوم، فإن هذه المكانة كانت حصرية للقمح قبل ذلك، ولا يزال القمح يعود إليها بين الفينة والأخرى. وعند الحديث عن علاقة القمح بالسياسة، يمكننا تحديد ثلاثة مستويات لهذه العلاقة، وهي كالتالي:
1- القمح والاستقرار السياسي للدول واستقلالها
نظرًا إلى كون القمح هو الغذاء الرئيسي لكثير من الشعوب؛ فإن غيابه يسبب بطبيعة الحال اضطرابًا شديدًا وتهديدًا وجوديًّا؛ مما يزحزح استقرار الأنظمة السياسية. ولذلك نجد أن كثيرًا من الثورات يكون نقص القمح/الخبز أو غيابه أحد أسبابها الرئيسية، ومن أمثلة ذلك دعوات الخبز والحرية والعدالة في الثورة الفرنسية عام 1789، وإسقاط السلطان سليم الثالث عام 1807، والثورات الأوروبية عام 1848، وثورة تركيا الفتاة عام 1910، والثورة الروسية عام 1917، حتى نصل أخيرًا إلى ثورات الربيع العربي التي كان «العيش» حاضرًا فيها منذ اللحظة الأولى، بل يتصدر مطالبها كما في حالة ثورة 25 يناير ( الثورة المصرية)، التي كان شعارها «عيش، حرية، عدالة اجتماعية».
وقد حضر القمح في المشهد السوري في يونيو (حزيران) 2020، من خلال اتهامات صدرت عن الحكومة السورية للولايات المتحدة الأمريكية باستخدام بالونات حرارية لإحراق مساحات شاسعة من حقول القمح جنوب الحسكة. وفي يونيو 2019 كان تنظيم الدولة الإسلامية قد تبنى إشعال النيران في عدة حقول قمح تابعة للأكراد بمنطقة القحطانية في الحسكة أيضًا.
2- القمح في السياسة الدولية
إذا كان القمح مهمًّا في الظروف العادية، فإن أهميته تتضاعف مرات عديدة أثناء الحروب، لما سبق ذكره من مزاياه على باقي أنواع الحبوب. وقد كانت الحربان العالميتان الأولى والثانية من اللحظات الفارقة في مضاعفة أهمية القمح بوصفه سلعة سياسية.
القمح في الحرب العالمية الأولى: استهلك خبزًا أقل؛ ننتصر!
لعب القمح دورًا محوريًّا خلال الحرب العالمية الأولى منذ أول يوم فيها، إذ بدأت الولايات المتحدة في إرسال المساعدات من عام 1914 لا عام 1917 عندما قررت دخول الحرب رسميًّا جنبًا إلى جنب مع الحلفاء.
وكان لذلك كبير الأثر في الداخل الأمريكي؛ إذ بلغ التضخم معدلات مهولة وتراجعت القدرة الشرائية للمواطنين. وبدأت إدارة الغذاء الأمريكية «U.S. Food Administration» في حملات إعلامية في طول البلاد وعرضها، تشجع المواطنين على الاقتصاد في الأكل، خاصة في القمح/الخبز واللحوم والسكر والدهون. وكانت الدعاية مباشرة جدًّا: «استهلك خبزًا أقل؛ ننتصر!»، فلا يمكن للجيش أن يحارب دون غذاء، إذ إن توفر الغذاء الكافي هو الضمانة الوحيدة لقدرتك على الاستمرار بالحرب والحفاظ على فرصتك بالفوز. ولو لم تستطع توفير الغذاء لجنودك؛ فليس لديك أي فرصة للفوز بالحرب على الإطلاق! وإذا كان الغذاء الوحيد المناسب لتمويل الجيش هو القمح، إذًا فأنت مدين للقمح ومن موَّلك به.
وهكذا كان توفير الولايات المتحدة القمح لحلفائها خلال الحربين العالميتين هو الركيزة الأساسية للانتصار. وكما قال جيفرسون مسبقًا عام 1793 خلال حروب فرنسا التوسعية في أوروبا: «واجبنا الإطعام، وواجبهم القتال».
القمح في الحرب العالمية الثانية: تمويل المدنيين يفي بالغرض
قامت الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية بالدور نفسه الذي قامت به خلال الحرب العالمية الأولى من تمويل المدنيين في المدن الأوروبية المدمَّرة، وتمويل جيوش الحلفاء. وهذه المرة من خلال خطة مارشال الشهيرة وخطة جسر برلين الجوي.
الثورة الخضراء: القمح سلاح الحرب الباردة
من الشائع عن الحرب الباردة التي امتدت لأكثر من أربعة عقود أن الأسلحة التي طبعت هذه الفترة كانت الصواريخ الباليستية وسباق التسلح النووي. لذلك من المثير للدهشة معرفة أن أهم أسلحة الحرب الباردة كان القمح! إذ إن كلًّا من الرؤوس النووية والصواريخ الباليستية وغيرهم من الأسلحة اقتصر أمرهم على كونه مجرد سباق تسلح ولم يصل إلى الاستخدام الفعلي. أما الأسلحة التي استخدمت بالفعل، فقد كان أهمها وأعظمها أثرًا هو القمح.
اكتشف عالم الزراعة الأمريكي، نورمان بورلوج، في الأربعينيات من القرن العشرين أصنافًا جديدة من القمح مقاومة للأمراض وذات إنتاجية عالية. وتزامن ذلك مع مجموعة من الابتكارات والتطورات التقنية في مجال الزراعة، مثل المبيدات الحشرية، والأسمدة الكيماوية، والآلات الزراعية، وتقنيات الري المتطورة. ومكَّن ذلك المزارعين من إنتاج محاصيل أكبر باستخدام المساحة نفسها من الأرض.
بتمويل من حكومة الولايات المتحدة ومنظمتي «Rockefeller» و«Ford Foundations» نُشرت هذه التقنيات في جميع أنحاء العالم خلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين؛ ما أدى إلى طفرة في إنتاج الغذاء وهي ما تعرف بـ«الثورة الخضراء». والتي ترتب عليها إنقاذ حياة ما يقرب من مليار شخص خلال القرن العشرين، وكانت سببًا في حصول نورمان بورلوج على جائزة نوبل للسلام عام 1970.
بالطبع، كانت رواية الولايات المتحدة الشائعة أن الثورة الخضراء هي محاولة لنشر السلام في العالم والوصول لعالم «خالٍ من العَوَز»، على حد تعبير الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في خطابه الافتتاحي عام 1941 بعنوان «الحريات الأربع». لكن هل سارت الأمور هكذا حقًّا؟
كان لدى صناع القرار في الولايات المتحدة قناعة بمبدأ: «الشيوعية ترافق الجوع أينما يذهب». لذلك، كانت «الثورة الخضراء» مشروع تمدد جيوستراتيجي للولايات المتحدة يهدف إلى استيعاب الشيوعية أو «الثورة الحمراء». لذلك تعهدت الولايات المتحدة بمساعدة الدول الفقيرة والنامية بالوصول إلى حالة الاكتفاء الذاتي وتحقيق الأمن الغذائي؛ رغبة في تقويض الشيوعية وليس سعيًا وراء مُثلٍ عليا!
لذلك نجد الكثير من المواقف المتناقضة فيما يتعلق بملف المساعدات الغذائية. منها على سبيل المثال، أن الولايات المتحدة فور وصول ضباط الجيش المصري للسلطة وإطاحة النظام الملكي، بعد «ثورة 23 يوليو (تموز) 1952»، عرضت تقديم مساعدات غذائية عبارة عن شحنات من القمح، في إطار برنامج «النقطة الرابعة» الذي بدأه الرئيس الأمريكي هاري ترومان. وما إن أعلن جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس عام 1956 حتى أوقفت الولايات المتحدة هذه المعونة!
فيما بعد، عاودت الكرَّة مع السادات بتقديم إغراءات له على هيئة شحنات من القمح بناء على اقتراح من هنري كيسنجر، بداية من عام 1974 وحتى عام 1979 عند التوقيع على كامب ديفيد حيث تحولت إلى جزء من الضمانات الأمريكية للمعاهدة، وتحولت بعد ذلك إلى منح لا ترد بدءًا من عام 1982.
وتعد إثيوبيا أيضًا مثالًا صارخًا على الطابع السياسي الأيديولوجي لبرنامج المعونة الغذائية الأمريكية وأنه بعيد كل البعد عن النوايا الخيِّرة. ففي الوقت الذي كانت تعاني فيه إثيوبيا واحدة من أسوأ المجاعات في التاريخ، تقاعست الولايات المتحدة عن مساعدتها وأجلت تسليمها بعض المساعدات مرات عديدة، وهي مساعدات لم تكن لتغني أو تسمن من جوع على أية حال.
فقد كان نحو 7.7 ملايين إثيوبي يعانون من الجفاف ونقص التغذية، ومن بينهم 2.5 ملايين يعانون من الجوع القارس المفضي إلى الموت، إلا أن الولايات المتحدة تذرعت بحجة معتادة وهي أن الحكومة الإثيوبية الشيوعية ليست أهلًا للثقة، وأن المساعدات لن تذهب إلى المستحقين وستذهب للقوات المسلحة، وذلك برغم وجود أدلة من منظمات محايدة تعمل على أرض الواقع تؤكد وصول المساعدات لمستحقيها.
ومن مفارقات الحرب الباردة المضحكة، أن «الشيطان» الذي كانت الولايات المتحدة تُحجم عن مساعدة كل من له صلة به، أي الاتحاد السوفيتي، كان حينها أكبر مستورد للقمح في العالم، وكانت الولايات المتحدة هي من تمده بالقمح بسعر أقل من سعر السوق العالمي، من أجل تعزيز التبادل التجاري بين البلدين!
وذلك منذ مؤتمر القمح الذي عُقد عام 1933 بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي والذي كان يعد اعترافًا بالاتحاد السوفيتي وبدء علاقات دبلوماسية وتجارية معه على أعلى مستوى. وظلت الولايات المتحدة تصدر القمح للاتحاد السوفيتي حتى حظرها تصديره عام 1980 اعتراضًا على غزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان. لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي سفن الولايات المتحدة؛ إذ كانت هذه اللحظة هي اللحظة التي أدرك فيها الاتحاد السوفيتي خطورة الاعتماد في غذائه على خصمه، وأعاد النظر في سياسات أمنه الغذائي، وخلال عقدين فقط، صارت روسيا، وريثة الاتحاد السوفيتي، من أكبر مصدري القمح في العالم.
3- رفيق الاستبداد.. هل ساهم القمح في صناعة الديكتاتوريات؟
لا تقتصر علاقة القمح بالسياسة على مستوى العلاقات الدولية أو مستوى الاستقرار السياسي داخل الدولة أو وسيلة لاستقلالها عن القوى الكبرى. بل يصل الأمر إلى أعمق من ذلك بكثير؛ إذ يرى الأنثروبولوجي السياسي ذائع الصيت، جيمس سكوت، أن القمح كان سببًا رئيسيًّا في نشوء ظاهرة «الدولة» المبكرة، أي أننا نستطيع القول، بقدر يسير من التصرُّف، إن القمح أوجد الظاهرة السياسية من الأساس!
فصَّل جيمس سكوت نظريته في كتابه «ضد القمح: تاريخ عميق للدول المبكرة» الصادر عام 2017، وملخصها كالتالي:
لاحظ الكاتب أن المجتمعات التي كانت تعتمد في غذائها على نباتات درنية أو جذرية، مثل البطاطس، لم تتطور إلى دول. في حين تحولت جميع المجتمعات التي كانت تعتمد على الحبوب إلى دول. ويرى الكاتب أن كلمة السر هي: الضرائب، إذ تعد مفتاح العلاقة بين الحبوب والدول.
وتفسيره لذلك هو أن القمح والحبوب المشابهة، تمتاز بعدة ميزات سمحت لها بأن تكون مناسبة أن يُجمع عليها الضرائب. فهي:
- مرئية، أي تنمو على سطح الأرض وليس في باطنها. في حين كان المزارعون يتمكنون من خداع محصل الضرائب على النباتات الدرنية (المزروعة ف باطن الأرض) بأن يجمعوا المحصول بعد أن يعود المحصل إلى بيته.
- قابلة للنقل والتخزين.
- قابلة للتقييم والتقسيم.
- حقولها ثابتة ويسهل مراقبتها وحساب كمية المحصول حتى قبل الحصاد.
وقد مكَّن فرض الضرائب على القمح في ظهور نخب غير منتجة، احتاجت إلى جناح مسلح للدفاع عن نظامها، فاستأجرت هذه النخب مجموعات أصبحت فيما بعد الشرطة، ثم الجيش بعد ذلك للدفاع ضد أي معتد خارجي، ثم تكونت باقي مؤسسات السلطة تباعًا.
ويلفت جيمس سكوت النظر إلى أن بنية الدولة هذه، بنية مركزية تميل للاستبداد، وأن كل المجتمعات الزراعية القديمة التي كان اقتصادها قائم على الجباية، كانت استبدادية بالضرورة؛ حتى تتمكن من الاستمرار في فرض سلطتها والاستمرار في الجباية، ولذلك يرى سكوت أن القمح كان دائمًا مترافقًا مع الاستبداد والسيطرة المطلقة.
ويمكن هنا الرجوع لتاريخ الجبرتي الذي رصد ممارسات محمد علي القمعية الاستبدادية مع الفلاحين خلال فترة الحصار القاري لفرنسا على بريطانيا، أي فترة الحروب النابليونية 1811-1817. إذ سجل الجبرتي الممارسات العنيفة التي صاحبت جمع الحبوب من الفلاحين، ومنعهم من بيع القمح أو شرائه. بل إجبارهم على تسليم ما كان مخزونًا في دورهم، على أن يحاسبهم في العام القادم. وتسبب ذلك في حالة من السخط والتمرد، لكنه لم يكن مستعدًّا للتراجع أو التفاوض مع الفلاحين؛ حتى لا تفوته الفرصة التي درَّت على خزائنه 50 ألف كيس من القروش، ومن هنا، تعامل بوحشية في إخماد تمرد الفلاحين.
ومن أبشع مظاهر الاستبداد المرتبطة بالقمح، المجاعة التي تسبب بها ستالين للشعب الأوكراني بين عامي 1932-1933 بمصادرته لكل الحبوب ومحاصرتهم حتى الموت، وهي المجاعة التي عرفت بالهولودومور (وهي مزيج من الكلمتين الأوكرانيتين: الجوع وألم الموت) وراح ضحيتها نحو 3.9 ملايين ضحية!
نستنتج مما سبق أن الطابع السياسي للقمح ليس وليدًا للحرب الروسية الأوكرانية، وإنما لصيقًا به منذ عرفه الإنسان، وإذا كان النفط قد فاقه أهمية خلال القرن العشرين، فإنه في الأوقات الحرجة، كأيامنا هذه، قد يستعيد القمح مكانته بصفته أهم سلعة سياسية على الإطلاق؛ وهو الدرس الذي على الجميع الانتباه له فورًا والبدء في البحث عن بديل أو السعي للاكتفاء الذاتي.
ساسة بوست