مع بداية التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، لعبت العملات المُشفرة Cryptocurrencies دوراً مزدوجاً لصالح طرفي الصراع في آن واحد، إذ بدت في خضم هذه الحرب بديلاً جذاباً للمواطنين الروس والأوكرانيين عن المؤسسات المالية التي تُقيد وصولهم إلى حساباتهم المصرفية والعملات الأجنبية؛ وذلك في ظل حالة الفوضى المنتشرة، وصعوبة الاعتماد على البنوك التقليدية، وانخفاض سعر صرف العملة المحلية في كلا البلدين.
بيد أن تنامي استخدام العملات المُشفرة لم يقتصر على المواطنين في روسيا وأوكرانيا فحسب، بل امتد إلى حكوماتهم كذلك؛ ففي الأسابيع الثلاثة الأولى من الحرب، تمكنت الحكومة الأوكرانية وحدها من جمع تبرعات بالعملات المُشفرة قُدرت بنحو 54 مليون دولار. وعلى الجانب الآخر، اكتسبت هذه العملات أهمية كبيرة بالنسبة للسلطات الروسية، التي وجدت فيها وسيلة للالتفاف على العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها. وكل ذلك أثار تساؤلات حول طبيعة الدور غير المُسبوق للعملات المُشفرة منذ نشوب الحرب الروسية – الأوكرانية، ومدى نجاحها، وكذلك التحديات التي تعيق الاستفادة بشكل كامل منها.
ملاذ آمن
ظل أنصار “البيتكوين” (Bitcoin)، لعدة سنوات، يُطلقون على العملة الرقمية مُسمى “الذهب الرقمي”؛ انطلاقاً من فرضية مؤداها أن “البيتكوين” هي مخزن ذو قيمة يمكن أن يكون أصلاً آمناً في أوقات الاضطرابات، على غرار الذهب. غير أن تلك الفرضية تراجعت في السنوات الأخيرة؛ نظراً لارتفاع المخاطر الاستثمارية لهذه العملات، في ظل ما تتسم به من تقلبات واسعة في قيمتها.
لكن مع اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، عاد من جديد الحديث عن العملات الرقمية باعتبارها ملاذاً آمناً، وكان ذلك بالتحديد في الأول من مارس 2022، حين شهدت عملة “البيتكوين” قفزة هائلة في يوم واحد إلى ما فوق 44 ألف دولار، وذلك من أدنى مستوياتها في العام الجاري قبل هذا اليوم. إذ إنه في تلك الأثناء، سادت تكهنات بأن وقت العملات المُشفرة كأصل آمن قد حان. وما منح هذه التوقعات مصداقية أكثر، هو انفصال “البيتكوين” كثيراً عن سوق الأسهم والذهب، وهو ما اُعتبر مؤشراً إيجابياً لفرص اللجوء للعملات المُشفرة كملاذ آمن.
بيد أن ما حدث عندما رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي الروسي أسعار الفائدة، أثبت عدم صحة ذلك الاعتقاد، حيث لم يتم التمسك بالعملات المُشفرة كأصول آمنة، بل تم اللجوء حينها لبيعها بشكل أسرع مما كان متوقعاً، وهو ما يتنافى بشكل جذري مع تعريف الملاذ الآمن باعتباره أحد الأصول التي تحتفظ بقيمتها في أوقات اضطرابات السوق.
سلاح ذو حدين
منذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، بدت العملات المُشفرة سلاحاً ذا حدين، يعمل في الوقت نفسه لصالح طرفين متضادين؛ فبينما مثّلت بديلاً جيداً لأوكرانيا فيما يتعلق بتلقي المساعدات المالية بشكل مباشر، فإنها شكلت في ذات الوقت أداة للتحايل على العقوبات المالية المفروضة على طبقة “الأوليغارشية الروسية” (الأثرياء) والحكومة الروسية.
وللإنصاف، لم يكن الاستخدام الهائل من قِبل روسيا وأوكرانيا للعملات المُشفرة، وليد الحرب الراهنة، ولا دخيلاً جديداً على البلدين. ففي أغسطس 2021، كانت روسيا ثالث أكبر دولة على مستوى العالم في تعدين العملات المُشفرة، وذلك بعد الولايات المتحدة وكازاخستان؛ لاستحواذها على 11.23% من عمليات التعدين في العالم، وفق مؤشر “كامبريدج لاستهلاك البيتكوين للكهرباء”.
وتُقدر معاملات المواطنين الروس بالعملات المُشفرة بحوالي 5 مليارات دولار سنوياً، بحسب البنك المركزي الروسي. وإجمالاً، يمتلك الروس عملات مُشفرة بقيمة تزيد على 16.5 تريليون روبل (214 مليار دولار، وفقاً لسعر صرف شهر يناير 2022)، وفقاً لتقديرات حكومية روسية صادرة في بداية العام الجاري، وهو ما يعادل حوالي 12% من القيمة الإجمالية للعملات المُشفرة المتداولة عالمياً. أما أوكرانيا، فتستحوذ على 0.13% من عمليات التعدين في العالم، كما تحصد المرتبة الرابعة في مؤشر تبني العملة المُشفرة العالمي الصادر عن شركة “تحليلات البلوك تشين”.
تحديات التوظيف
مع نشوب الحرب في أوكرانيا، تكالب المواطنون الروس على بنوك بلادهم لسحب أموالهم؛ خشية تأثرها بالعقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو، مما دفع البنك المركزي الروسي للتدخل برفع أسعار الفائدة إلى نسبة تصل إلى 20%، بهدف تحقيق الاستقرار في قيمة “الروبل”. وفي غضون ذلك، بدا نظرياً أنه من الممكن أن يؤدي الوصول للعملات المُشفرة إلى تخفيف وطأة العقوبات الاقتصادية التي تتسبب في خنق الاقتصاد الروسي بشكل متزايد. وسبق ذلك إجراء البنك المركزي الروسي في منتصف فبراير الماضي تداولاً مبدئياً للروبل الرقمي، في الوقت الذي تسعى فيه موسكو إلى توفير أدوات للمساعدة على إخفاء أصول المعاملات الرقمية؛ وهو ما أثار مخاوف غربية من نجاح روسيا في استخدام العملات المُشفرة للالتفاف على العقوبات ونقل الأموال من دون أن يتم اكتشافها.
غير أنه من الناحية العملية، تبدو العملات المُشفرة أداة غير فعالة في مواجهة سلاح العقوبات؛ نظراً لما يعتري ذلك من تحديات وصعوبات، يمكن تناولها في الآتي:
1- خيارات تحويل العملات المُشفرة إلى نقد والعكس، لا تزال محدودة، وهي مشكلة مماثلة لأولئك الذين يحاولون تقديم المساعدة لأوكرانيا، ومن يسعون إلى التهرب من العقوبات الاقتصادية.
2- ليس صحيحاً الاعتقاد بأن العملات المُشفرة لا يمكن تتبعها، إذ إنه من الممكن بواسطة تقنيات “البلوك شين”، وهي التكنولوجيا التي تدعم عمل العملة الرقمية “بيتكوين”، تتبع تحركات الأموال من حساب إلى آخر بسهولة تامة. لذا فإن العملات المُشفرة يمكن أن تخضع للمراقبة، مما يجعلها أداة غير ملائمة لتجنب العقوبات.
3- لا توجد سيولة كافية من العملات المُشفرة لدى كل من “الأوليغارشيين” والشركات الروسية لتحويل أموالهم، إذ لا تزال السيولة المتوفرة من هذه العملات تمثل جزءاً بسيطاً من سوق العملات العالمي. وبالتالي فإن نقل مبالغ كبيرة من المال باستخدام العملات المُشفرة يعد أمراً شديد الصعوبة في الوقت الحالي.
لكن ثمة تحركات موازية لروسيا بواسطة العملات المُشفرة، قد تمكنها من تخفيف آثار العقوبات الاقتصادية عليها؛ إذ تسعى موسكو لبيع النفط والغاز بعملة “البيتكوين” المُشفرة أو “الروبل” الروسي، بدلاً من الدولار الأمريكي أو اليورو الأوروبي. ففي الأيام القليلة الماضية، رفعت روسيا شعار “بترو بيتكوين” بدلاً من “بترو دولار”، مما أسفر عن ارتفاع في قيمة العملة المُشفرة “بيتكوين”، لتتجاوز 45 ألف دولار، ومن المتوقع خلال الفترة المقبلة أن تزيد روسيا ضغوطها في ذلك الجانب معتمدة على العملات المُشفرة، كسلاح لمواجهة العقوبات.
مكاسب أوكرانية
عادة في أوقات الحروب والنزاعات، تلجأ الدول المتورطة فيها إلى وسائل غير تقليدية لاحتواء خسائرها الاقتصادية، والتكاليف الناجمة عن تدمير الممتلكات جرّاء العمليات العسكرية، ولتوفير الأموال اللازمة للتجهيزات والمعدات العسكرية. وفي هذا الصدد، سعى نائب وزير التحول الرقمي في أوكرانيا، أليكس بورنياكوف، في الأيام الأولى من الحرب، إلى إصدار العملة المُشفرة الخاصة بأوكرانيا كمبادرة رمزية لقضية كييف، ووسيلة للتخفيف من الآثار الاقتصادية للحرب على بلاده. ومع أن هذا المشروع تم إلغاؤه، فإنه مثّل نقطة البداية لاستغلال العملات المُشفرة في جمع التبرعات لصالح دعم الاقتصاد الأوكراني وتمويل الحرب.
وبالرغم من انتهاز بعض المواطنين في أوكرانيا تلك الفرصة لصك وتسويق إصدارات مزيفة من العملة المُشفرة التي تصدرها حكومة بلادهم، حتى باتت العملات المُشفرة جزءاً أساسياً من “اقتصاد الظل” في أوكرانيا، تُستخدم بشكل غير شرعي في التهرب الضريبي وهروب رأس المال وغيرها؛ بيد أن ثمة جوانب إيجابية تستفيد بها أوكرانيا من العملات المُشفرة، ومنها ما يلي:
1- تمويل عمليات الحرب: يصعب تلقي التبرعات عبر الأساليب المصرفية التقليدية في ظل الحروب؛ نظراً لارتفاع تكلفة إرسال الأموال إلى الخارج، علاوة على استغراق هذه العمليات وقتاً طويلاً، على عكس العملات المُشفرة. فعلى مدار الأسابيع القليلة الماضية، نجحت العملات المُشفرة في تمويل الإنفاق الحربي في أوكرانيا، مع تدفق ملايين الدولارات منها لدعم الجيش الأوكراني والجماعات الناشطة في مجال القرصنة الإلكترونية، حتى بلغت، وفقاً لما ذكره نائب وزير التحول الرقمي في أوكرانيا، يوم 9 مارس الماضي، ما يقرب من 100 مليون دولار من العملات المُشفرة.
وفي 11 مارس الماضي، أنفقت الحكومة الأوكرانية ما لا يقل عن 15 مليون دولار من العملات المُشفرة التي تلقتها، وجلبت عملات أخرى من قِبل شركات التشفير مثل “إف تي إكس”، و”كونا”، و”إيفرستيك”. فيما قامت إحدى المنظمات غير الحكومية التي تدعم الجيش الأوكراني بجمع عدة ملايين من هذه العملات المُشفرة، حيث اُستخدم جزء كبير منها لشراء مجموعة متنوعة من المعدات العسكرية والإمدادات الطبية وتطبيقات “التعرف على الوجه”.
2- محاولة عزل روسيا عن استخدام العملات المُشفرة: في الوقت الذي تشجع فيه أوكرانيا مناصريها على التبرع لها بالعملات المُشفرة، فإنها عمدت إلى توظيف هذه العملات في عزل روسيا بكل وسيلة ممكنة، حيث طالبت كييف جميع مستخدمي العملات المُشفرة الرئيسية بحظر عناوين المستخدمين الروس، وأعلن نائب رئيس الوزراء الأوكراني ووزير التحول الرقمي، ميخايلو فيدوروف، عن تقديم مكافآت سخية لمن يدلي بمعلومات عن المحافظ الرقمية المرتبطة بالسياسيين الروس والبيلاروس.
وضمن العقوبات المالية المفروضة على روسيا، وافقت الولايات المتحدة، بعد فصل بعض البنوك الروسية عن نظام “سويفت” العالمي، على عزل موسكو عن بورصات العملات المُشفرة الكبرى مثل “كوين بيس” و”كراكن” و”إيتورو”، التي أعلنت بدورها التزامها بهذه العقوبات، وعدم سماحها بالتهرب على منصاتها. وعلى المنوال نفسه، تخطط اليابان لإلزام بورصات الأصول المُشفرة بفحص ما إذا كان عملاؤها أهدافاً للعقوبات الروسية.
إجمالاً، أصبحت العملات المُشفرة جزءاً من النظام المالي العالمي، ومن ثم من معادلة الصراع الدولي؛ في ظل دورها غير المسبوق في الحرب الروسية – الأوكرانية. وعلى الرغم من المخاطرة العالية لاستخدام مثل هذه العملات، فإن كييف وموسكو ما زالتا تراهنان على أهميتها، سواء لتسيير العمليات الاقتصادية وتمويل الجهود الحربية بالنسبة لأوكرانيا، أو لتخفيف وطأة العقوبات الاقتصادية بالنسبة لروسيا.
المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة