انهيار الليرة، زيادة سعر البنزين وغياب نقل عام فعّال، انقطاع الكهرباء وارتفاع فاتورة المولّدات الخاصة، رفع الدعم عن استيراد النسبة الأكبر من الأدوية، توقّف بعض المستشفيات عن قبول المضمونين، الغلاء الفاحش في أسعار المواد الغذائية الأساسية، وقريباً صرخة الأهالي من غلاء أقساط المدارس… مآسٍ يُطلب من الأفراد تغطيتها من رواتبهم التي تآكلت ولم يبحث المسؤولون بعد في تصحيحها. القرار مُتخذ بترك الناس لتدبّر مصيرهم، وهذا أحد أوجه الصراع مع المنظومة.
يُمكن استخدام عبارة الاقتصادي البريطاني الراحل جون ميناردكينز: «على المدى الطويل كلّنا ميّتون»، لمطالبة السلطة باتخاذ إجراءات سريعة للحدّ من تبعات الأزمة على السكّان. حالة الطوارئ في لبنان تفرض الضغط على السلطة لتطبيق إجراءاتٍ مجتمعية حقيقية تُلمَس نتائجها على المدى القصير. تصحيح الأجور، وليس فقط رفع حدّها الأدنى، من المواضيع الأساسية التي لم يعد من الممكن تجاهلها، أو التحجّج بضعف الموارد المالية للدولة وتراجع إنتاجية القطاع الخاص، للتهرّب من تحقيقها.
قبل شهر من استقالة حكومة حسّان دياب، تحدّثت وزيرة العمل لميا يمّين عن تشكيل «لجنة المؤشّر» – تتألّف من مديرية الإحصاء المركزي والاتحاد العمالي العام والهيئات الاقتصادية – لدرس تعديل الأجور نتيجة تدنّي القدرة الشرائية لليرة، وعلى أساس أنّ دياب كلّف وزير المالية غازي وزني إتمام دراسة عن الموضوع.
مرت سنة من دون أن تظهر الدراسة أو يتحوّل الملفّ إلى بندٍ أساسي على جدول أعمال المعنيين. حاولت يمّين إعادة فتح النقاش أخيراً، فأتاها الجواب من هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل بتعذّر قيام حكومة تصريف أعمال بتصحيح للأجور. قبل هذا الرأي، كان وزني قد قطع الطريق على يمّين، حين جزم لها أنّه «لا إمكانية أبداً لتصحيح الأجور بسبب كلفتها المالية الكبيرة وعدم قدرة الموازنة على تحمّلها»، والأولوية هي «لتوحيد أسعار الصرف المتعدّدة قبل التصرّف».
ربط الأجور بكلفتها المالية فقط يُقلّل من دورها الاقتصادي. الأجر ليس «عبئاً» يؤدّي إلى ترتيب كلفة مالية إضافية على الدولة أو الشركات الخاصة، بل يُعدّ قيمة إنتاجية مهمة، لمساهمته في تحريك الاقتصاد من خلال العرض والطلب.
حاولت وزارة العمل الاستعاضة عن تصحيح الأجور بتعديل بدل النقل، واتُّفق بعد اجتماعات ضمّت الاتحاد العمالي العام والهيئات الاقتصادية على أن يُصبح 24 ألف ليرة. بحسب وزارة العمل، «لم تتم الموافقة على الطرح، لأنّ رئاسة الجمهورية طلبت من وزني إعداد دراسة مالية قبل تطبيق الزيادة». وفي هذا المُربّع تُعلق النقاشات حول تصحيح الأجور، التي فقدت قيمتها وقدرتها على تأمين الحدّ الأدنى من عناصر استمرارية السكان. فإذا كان الراتب يتكوّن من خمسة عناصر (الطبابة، السكن، التعليم، النقل، السلة الغذائية)، كيف لحدّ أدنى يبلغ 675 ألف ليرة أن يُغطّي هذه الاحتياجات؟
ولكن، هل يُمكن تصحيح الأجر النقدي في بلدٍ يمرّ بأزمة على الصعد كافة؟ يُجيب رئيس القسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية – الأميركية في بيروت غسّان ديبة بأنّ «الأزمة النقدية هي التي تقود إلى أن يُصبح تصحيح الأجور نقدياً مطلوباً. فالأزمة أدّت إلى تراجع القيمة الحقيقية للأجور، وبالتالي فإنّ العمال والموظفين سيجدون أنفسهم عاجلاً أم آجلاً في موقع المطالبة بذلك. الأجور لن تعود إلى ما كانت عليه قبل الانهيار، ولكنّها بالتأكيد ستُصبح أفضل ممّا هي عليه الآن».
يصطدم هذا الطرح بمن يربط زيادة الأجور بالتضخّم. يقول أحد الاقتصاديين إنّه «لا يُمكن وضع أي تصوّر اقتصادي لا يتضمّن تصحيحاً للأجور»، ولكنّ الإقدام على هذه الخطوة بطريقة مستقلة عن الحل العام «في ظلّ الظروف القائمة اليوم، ستكون له آثار سلبية كزيادة التضخّم، وعجز العديد من المؤسسات عن الإيفاء بذلك. فضلاً عن أن العمالة غير النظامية تقدر بـ60%، فكيف سنضمن تصحيح أجورهم وعدم خلق لامساواة بين العمّال؟». يردّ ديبة بأنّ كل تصحيح «سيؤدّي بالطبع إلى مزيد من التضخّم ولكن لا يُحمَّل العمّال والموظفون مسؤولية ذلك، فعند انطلاق عجلة التضخّم ينطلق معها الصراع الاجتماعي، لأنّ هناك دائماً من يخسر ويربح منه». من أين تُموّل الزيادة؟ «الدولة تستطيع فرض ضرائب لتمويل زيادات أجور القطاع العام. ليس هناك مفر من زيادة الأجور». أما بالنسبة إلى المؤسسات الخاصة، ففي كلّ عملية تصحيح أجور يتم «إعفاء بعض المؤسسات مؤقتاً لمدة معينة اذا كان تصحيح الأجور سيؤدي إلى إغلاقها. لكن علينا ألا نعتبر أنّ كل المؤسسات اليوم تعاني، هناك رابحون من التضخّم وبالأخص المؤسسات التي زادت أعمالها في الفترة الأخيرة مثل المصدّرين ومنتجي السلع المستهلكة حالياً بدلاً من السلع المستوردة، وقطاعي الخدمات والسياحة». يؤكّد ديبة أنّ العديد «من القطاعات انتعشت بعد أن كانت تعاني من آثار الاقتصاد الانكماشي الذي كان مسيطراً قبل الأزمة. هناك فعلياً نهاية للاقتصاد الريعي وبداية تشكّل الاقتصاد الإنتاجي». وهذا ما يعني أنّه آن أوان تصحيح الأجور والقدرات لذلك متوافرة.
لا يُمكن وضع تصوّر اقتصادي لا يتضمّن تصحيحاً للأجور
يُعتبر الاقتصادي روي بدارو من المُنظّرين لتصحيح الأجور ورفع الحدّ الأدنى «ليُراوح ما بين 125 و150 دولاراً أميركياً، تُدفع بالليرة شهرياً، بحسب سعر الصرف في السوق الموازية»، تحضيراً للمرحلة الثانية التي «يُصبح فيها الأجر يُساوي 40% من مجموع الدخل القومي (مجموع دخل بلد من مختلف القطاعات)، ونخلق بيئة حاضنة للعمل تُتيح لنا إعادة اليد العاملة الشابة من الخارج وبناء نظام اقتصادي جديد، تكنولوجياً وصناعياً». الثغرة في طرح بدارو فصله بين موظفي القطاع العام والقطاع الخاص، واعتباره أنّ الزيادة ممكنة في الثاني فقط. يُحاجج بأنّ «الإنتاجية مختلفة بين القطاعين. يجب إعادة تنظيم القطاع الخاص وأن يتباين تصحيح الأجور بحسب القطاعات والمناطق، فإنتاجية المصارف تختلف عن معمل أنسجة، وقيمة الـ100 دولار الشرائية ليست نفسها بين بيروت والهرمل. أما القطاع العام فلا يتحمّل زيادةً في الأجور». على الرغم من وجود أرقامٍ تُشير إلى النقص في موظفي الإدارات العامة، وسوء توزيعهم وليس فائضهم، بدارو يقول إنّ «القطاع العام لا يتحمّل هذا العدد من الموظفين. لذلك اقترحت استيعاب فائض موظفي الإدارات الرسمية في المؤسسات الخاصة، مع تأمين تمويلها لسنوات عديدة حتى يتم الدمج بنجاح ولا يُهاجر الشباب».
«التخويف» من التصحيح
بلغت الكتلة النقدية في التداول في تموز نحو 40 ألفاً و800 مليار ليرة. يرفع بعض الاقتصاديين والسياسيين والمصرفيين هذا الرقم لـ«التخويف» من إجراءات عدّة من بينها تصحيح للأجور، مُروّجين بأنّ تمويل الزيادة في الرواتب سيتم من «طبع العملة» ما سيؤدّي إلى مزيد من الانهيار في الليرة وارتفاع التضخم والأسعار وتفريغ الخطوة من هدفها الحقيقي. تنطوي هذه الحجة على الكثير من التضليل. فعدا أنّ الزيادة في الأسعار لن تكون بنفس نسبة زيادة الأجور وما يستتبعها، يشرح أحد المختصّين الماليين أنّه في لبنان «خلق النقد يتمّ لأنّ سعر صرف الدولار يرتفع، وليس العكس». فقبل انهيار الليرة، كان الشخص بحاجة إلى 150 ألف ليرة لشراء سلعة بـ100 دولار، بينما اليوم أصبح ثمنها مليوناً و800 ألف ليرة (بحسب سعر صرف 18 ألف ليرة)، «لشراء نفس السلعة بتنا بحاجة إلى كمية نقد أكبر. ارتفعت الكتلة النقدية ولكنها لا تزال تشتري نفس كمية السلع». يختلف ذلك عن عملية طبع العملة وخلق النقد، فهذا يُمكن الحديث عنه «حين تُصبح الكتلة النقدية المعروضة تشتري كميات أكبر من السلع».
بشكل عام، خلق النقد هو أشبه بطبع أرقامٍ على الشاشة وتحويلها من حساب إلى آخر، من دون أن تكون «حقيقية» بالضرورة. وتُعدّ عملية أساسية في النظام الرأسمالي، على اعتبار أنّها مؤشّر للقيمة، وسيلة دفع، وأداة لتسعير علاقة بلد مع الخارج.
ليا القزي – الاخبار