نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية تقريرًا مطولًا أعدَّه بن هبارد، مدير مكتب الصحيفة في العاصمة اللبنانية بيروت، وليز ألدرمان، كبيرة مراسلي الصحيفة للشؤون التجارية والاقتصادية في أوروبا، سلَّطا فيه الضوء على رياض سلامة، الذي يشغل منصب حاكم مصرف لبنان، وأحد أهم الشخصيات المحورية في الاقتصاد اللبناني والذي تُجرى بحقه عدة تحقيقات دولية بشأن مزاعم فساد متورط فيها، بعدما كان ينال قدرًا كبيرًا من الإشادة والإطراء على حسن إدارته لموارد لبنان المالية.
رياض سلامة.. انتهى زمن الإشادة
في مستهل التقرير، يُشير المُراسلان إلى الإشادة وآيات المديح والثناء التي كانت تُكَال لرياض سلامة، حاكم مصرف لبنان المركزي، داخليًّا وخارجيًّا على مدى عقود بوصفه شخصًا عبقريًّا في إدارة الأمور المالية حافظَ على تدوير الاقتصاد اللبناني واستقرار العملة على الرغم من الحروب والاغتيالات والاضطرابات السياسية المتكررة التي شهدها لبنان خلال مدة إدارته للمصرف المركزي. لكنه لم يعد ينعم بهذه الإشادة الآن.
ويُوضِّح التقرير أن لبنان الواقع في مفترق طرق في منطقة الشرق الأوسط يعاني من انهيار أبعاد تاريخية: تعاني مصارفه إلى حد كبير من الإفلاس، ومعدلات البطالة آخذة في الارتفاع، بالإضافة إلى انهيار عملته؛ ما دفع كثيرًا من اللبنانيين إلى توجيه سهام اللوم إلى صدر سلامة في عدم الكفاية من كل شيء الذي جعلهم يكافحون من أجل الحصول على الطعام، ويتسابقون من أجل العثور على الأدوية وينتظرون في طوابير طويلة لتزويد سياراتهم بالوقود.
ويتابع التقرير أن سلامة يُتَّهم حاليًا بارتكاب خطيئة لا تُغتفر: إثراء نفسه ودائرته الداخلية عبر سنوات من الفساد. وقد فتح قضاة مكافحة الفساد في باريس تحقيقًا هذا الشهر بشأن ادِّعاءات جنائية مفادها أن سلامة، أحد رؤساء البنوك المركزية الأطول خدمة في العالم، جمع ثروة طائلة في أوروبا عن طريق إساءة استعمال سلطته. ويأتي هذا التحقيق القضائي في أعقاب تحقيق أولي أجراه مكتب المدعي العام المالي الوطني الفرنسي.
الاقتصاد اللبناني يترنح.. تحقيقات دولية
وطلب الادِّعاء العام في سويسرا من السلطات اللبنانية مساعدته في إجراء تحقيق منفصل في عمليات الاختلاس المشتبه بها وغسيل الأموال المرتبطة بسلامة وشركائه. وأثارت هذه المزاعم ضجة كبيرة في دولة تعاني من أزمة قال عنها البنك الدولي مؤخرًا إنها يُمكن أن تحتل المرتبة الأولى من بين الأزمات الثلاثة الأولى على مستوى العالم على مدار الـ150 عامًا الماضية، وهذا الأزمة عبارة عن انكماش اقتصادي «وحشي» من حيث ضخامته و«يرتبط عادةً بالصراعات أو الحروب».
ولفت التقرير إلى أنه على الرغم من الانهيار الذي يعاني منه اقتصاد لبنان، لم يواجه سلامة، مهندس السياسة النقدية في لبنان منذ عام 1993، أي دعوات جادة لإطاحته، مع أنه أشرفَ على إستراتيجية تتطلب مزيدًا من الاقتراض لتسديد مدفوعات الدائنين الحاليين، وهو ما وصفه بعض النُّقاد بأنه أكبر مخطط بونزي (عملية استثمار احتيالية عن طريق الدفع لأقدم المستثمرين باستخدام أموال جُمعت من المستثمرين الجدد) في العالم.
ويُؤكد التقرير أن ما يحمي سلامة من التحقيق معه داخليًّا والتدقيق في حساباته، هو دوره المحوري في شبكة المصالح التجارية والسياسية الفاسدة في لبنان. وترسم أكثر من 20 مقابلة مع مسؤولين لبنانيين، وغربيين، ومسؤولين نقديين واقتصاديين، وزملاء سابقين لسلامة، صورة واضحة لسلامة المدير الداهية الألمعي الكتوم الذي استطاع أن يبني إمبراطورية داخل البنك المركزي واستخدمها ليجعل وجوده ضروريًّا لا غنى عنه للأطراف الفاعلة من الأثرياء وذوي النفوذ، عبر مختلف الأطياف السياسية اللبنانية.
المسؤول عن حسابات المافيا
يستشهد التقرير في هذا الصدد، بقول جميل السيد، عضو مجلس النواب، ومدير سابق لجهاز الأمن العام اللبناني، وهي المؤسسة التي تشرف على الأمن الداخلي وإصدار بطاقات الهوية وجوازات السفر: «لم يكن أبدًا سلامة مديرًا للمصرف المركزي اللبناني. لكنه كان مسؤولًا عن حسابات هذه المافيا. وكان يحميهم، وكانت المافيا تحمي أنفسها بحمايته لهم».
بيد أن التحقيقات في فرنسا وسويسرا تُشكل تهديدات جديدة على موقف سلامة ومكانته. إذ يُحقق القضاة الفرنسيون في شكوى قدمتها منظمة «شيربا» الفرنسية التي تنشط في مكافحة الجرائم المالية، وتتهم سلامة وشقيقه رجاء سلامة وبعض أقاربه وماريان الحويك، مديرة المكتب التنفيذي لحاكم مصرف لبنان المركزي، بالاستيلاء على أموال بطريقة غير مشروعة ونقلها من بنوك لبنان إلى البنوك السويسرية، وبعد ذلك غسل الملايين منها في فرنسا من خلال الاستثمار في سوق العقارات، بما في ذلك العقارات الفاخرة الواقعة بالقرب من برج إيفل.
ونوَّه التقرير إلى أن القضاة يتمتعون بصلاحيات واسعة تشمل السعي إلى تعزيز أواصر التعاون مع السلطات اللبنانية وتجميد الأصول إذا كان مصدر تمويلها يبدو غير قانوني. يقول بيير أوليفييه سور، محامي رياض سلامة في فرنسا، إن: «سلامة نفى هذه الادِّعاءات جملة وتفصيلًا».
ومن جانبه، يُحقق مكتب المدعي العام السويسري منفردًا في شبكة من تحركات الأموال من الحسابات المصرفية من سويسرا إلى بنما، والتي يشك في أن سلامة وشقيقه قد يكونا استخدَماها لإخفاء عمليات «الاختلاس المحتملة» لأموال مصرف لبنان المركزي وتنفيذ عمليات «غسيل أموال».
بدوره، يقول الادِّعاء السويسري، الذي يستند في تحقيقه إلى شكوى قدمتها منظمة «المحاسبة الآن»، منظمة أسسها نشطاء حقوقيين لبنانيين وسويسريين في عام 2020، إن الوثائق تُظهر أن سلامة وظَّف شركة «Forry Associates»، وهي شركة وساطة مملوكة لشقيقه، لبيع سندات خزانة المصرف المركزي، وذلك من عام 2002 إلى عام 2015، وحوَّل البنك ما لا يقل عن 330 مليون دولار من العمولات إلى حساب الشركة في سويسرا. وقال سلامة إن العقد بين الشركة والبنك كان قانونيًّا.
كيف تولى رياض سلامة منصبه؟
أوضح ممثلو الادِّعاء السويسري أن هناك مبالغ كبيرة في حساب شركة «Forry Associates» حُوِّلت إلى حسابات سويسرية يملكها سلامة، واستُخدِم جزء من هذه الأموال في النهاية لشراء عقارات بقيمة ملايين اليوروهات في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وسويسرا.
وبخلاف العقارات، يبحث الادِّعاء السويسري في مزاعم بأن رجاء سلامة كان قد حوَّل أكثر من 200 مليون دولار من حساب شركة «Forry Associates» السويسري إلى حساباته في البنوك اللبنانية التي تربطه بها علاقات سياسية قوية. وكان من بين هذه البنوك بنك «ميد»، المملوك لعائلة رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني السابق الذي عيَّن سلامة حاكمًا لمصرف لبنان المركزي، وابنه سعد الحريري؛ أبرز سياسي سُنِّي في البلاد.
وألمح التقرير إلى أن الادِّعاء العام السويسري أو الفرنسي لم يوجه أي اتهامات لسلامة أو لأخيه أو مساعديه. ومن غير الواضح كم تستغرق التحقيقات من الوقت. ومنذ سنوات عديدة، تثار الأقاويل والأحاديث بشأن تربح سلامة الذاتي واستغلاله لمنصبه، إذ وصف جيفري فيلتمان، السفير الأمريكي السابق في لبنان والمبعوث الخاص الحالي لمنطقة القرن الأفريقي، سلامة في البرقيات الدبلوماسية المسربة لموقع «ويكيليكس» في عام 2007 بأنه «يُشاع حوله عدد من الإشاعات بشأن فساده، وميله للسرية والتربح الذاتي خارج نطاق القانون في البنك المركزي».
ورفض رياض سلامة، البالغ من العمر 70 عامًا، إجراء مقابلة عند إعداد هذا التقرير، ولم يرد على أي أسئلة مكتوبة ونفى ارتكاب أي مخالفات. وأكد مرارًا وتكرارًا أنه جمع ثروة شخصية بلغت 23 مليون دولار خلال 20 عامًا من العمل بصفته مصرفيًّا في شركة ميريل لينش قبل أن يتولى منصبه حاكمًا لمصرف لبنان المركزي. ولم يتسنَ الوصول إلى شقيقه رجاء سلامة للتعليق على الاتهامات الموجَّهة له.
واستشهد التقرير بما قال رياض سلامة لشبكة «سي إن بي سي» الأمريكية في العام الماضي قبل إعلان التحقيقات، إنه لن يستقيل من منصبه بسبب مشكلات لبنان المالية لأنه لديه «إستراتيجية للخروج من هذه الأزمة». ودافع سلامة عن مسيرته المهنية قائلًا إنه حافظ على أن يظل لبنان «واقفًا على قدميه بينما كان يعاني من ويلات الحروب والاغتيالات والحرب الأهلية وغيرها. ومن غير الإنصاف في الواقع أن نحكم على لبنان وكأنه السويد».
ترسيخ المنصب والحصول على الإشِادات
ومن جانب آخر، يتساءل بعض اللبنانيين كيف يُمكن لسلامة أن يظل في منصبه على رأس البنك المركزي. وقال البنك الدولي إن التضخم ارتفع إلى 80%، وغادر المستثمرون الأجانب البلاد، وربما يعيش أكثر من نصف سكان لبنان البالغ عددهم 6.7 مليون نسمة تحت خط الفقر.
وفي السياق ذاته، يتساءل هنري شاول، مستشار سابق لوزير المالية اللبناني والذي استقال العام الماضي، قائلًا إن: «سلامة مسؤول عن السياسة النقدية التي فشلت فشلًا ذريعًا. فكيف يظل في منصبه في ظل أي قواعد للقانون والحوكمة؟».
وأفاد التقرير بأن سلامة، داهية سياسي بارع يحمل جنسية مزدوجة لبنانية فرنسية، كان ضالِعًا في السياسة اللبنانية منذ أن عيَّنه رفيق الحريري محافظًا للبنك المركزي في عام 1993. وكان سلامة المصرفي الشخصي للحريري في ميريل لينش. وكان الحريري يحاول إعادة بناء لبنان بعد الحرب الأهلية الكارثية التي دامت 15 عامًا، وبدأ سلامة في تحقيق الاستقرار للعملة اللبنانية (الليرة) وجذب الاستثمار الأجنبي.
ويضيف التقرير أن سلامة حدَّد سعر الليرة اللبنانية الواحدة عند 1500 للدولار الواحد، وهو الربط الذي أدَّى إلى تعزيز الاقتصاد اللبناني لأكثر من عقدين، ولكنه يلزمه تدفقًا ثابتًا من الدولارات للحفاظ على استدامته. وكان هذا النظام هشًّا لأنه يُواجه خطر الانهيار إذا نفدت الأموال. لكن في كل مرة كانت لبنان تواجه فيها أزمات جديدة، كانت المساعدات الخارجية تواصل التدفق.
وأدَّى اغتيال رفيق الحريري في عام 2005 والحرب المدمرة بين جماعة حزب الله اللبنانية وإسرائيل في عام 2006 إلى تدفق مزيد من المساعدات الدولية. وواصل الأثرياء من المغتربين اللبنانيين إرسال العملات الأجنبية إلى بلادهم من الخارج. وأشاد أنصار سلامة به بوصفه منقذًا بارعًا للحفاظ على استقرار الاقتصاد في دولة لا يبدو أنَّ فيها أي شيء آخر. وعندما كانت الحكومات تأتي إلى السلطة وتغادرها، وهي تعاني من عجز مزمن في الميزانية، كان سلامة يمسك بزمام الأمور.
وأبرز التقرير أن النظام السياسي القائم على الطائفية في لبنان، يجب أن يكون فيه الرئيس للطائفة المسيحية المارونية، التي ينتمي إليها سلامة، وجعلته سمعته بوصفه العقل المدبر المالي منافسًا على أعلى منصب في البلاد في وقت من الأوقات. وأخبر سلامة ذات مرة رجل أعمال سأله عن خططه الاقتصادية، قائلًا: «امنحني الرئاسة وسأخبرك».
شبكة من المصالح وسماسرة السلطة
ونقل التقرير عن موظفين سابقين في مصرف لبنان المركزي ومسؤولين أجانب، تحدثوا بشرط عدم الكشف عن هويتهم، أن سلامة استخدم منصبه أيضًا لتقديم خدمات لسماسرة السلطة في النظام السياسي اللبناني. وحصل أبناء المسؤولين البارزين على وظائف في المصرف المركزي. كما يُقال إن رجال الأعمال والسياسيين والصحافيين، الذين يقدمون تغطية إيجابية عنه، استفادوا كثيرًا من القروض المدعومة من مصرف لبنان المركزي وغيرها من الترتيبات المالية التي من المرجح أن تثير انتباه المراقبين والمنظمات في الدول الأخرى.
لكن بعد عقود من الاستقرار النسبي، بدأ نظام سلامة في الانهيار. وبحلول عام 2015، احتلت نسبة الدين اللبناني إلى الناتج الاقتصادي (وهو مقياس لعبء الدين على اقتصاد الدولة) المرتبة الثالثة في العالم، بنسبة 138%، بينما كانت النسبة، عندما تولى سلامة منصبه، 51%، وكان لبنان يحتل المرتبة 97 في العالم.
بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك حرب أهلية مستعرة في سوريا المجاورة؛ ما أثار مخاوف من عدم الاستقرار. وطُلب من البنوك التجارية، التي تعاني من ثقل السندات السيادية اللبنانية المحفوفة بالمخاطر، الاحتفاظ بنسبة 15% من الودائع بالعملة الأجنبية في المصرف المركزي لدعم احتياطاتها، واجتذب سلامة مزيدًا من الودائع بمعدلات فائدة أعلى. وارتفعت أسعار الفائدة على الودائع بالدولار في البنوك التجارية، ووصلت في بعض الحالات إلى 20% أو أكثر، لجذب الدولارات فيما يصفه بعض المحللين بأنه مخطط بونزي، حيث كانت هناك حاجة دائمًا إلى أموال جديدة لسداد أموال الدائنين.
ويمضي التقرير إلى أواخر عام 2019، عندما انهار النظام، وفرضت البنوك قيودًا على عمليات السحب، وبدأ مصرف لبنان المركزي في مَدْ يده إلى احتياطاته، والتي تضمنت مبالغ كبيرة من أموال المودعين، للحفاظ على ارتباط العملة بالدولار. وأضرم المتظاهرون المناهضون للحكومة النيران في ماكينات الصرافة، وأغلقت البنوك أبوابها. يقول دان قزي، مصرفي لبناني سابق، إن: «النظام ظل يعمل لمدة طويلة ولم يهتم أحد. لكنه بعد أن فشل حاليًا أصبح الجميع غاضبين».
لبنان.. بلد المافيا والناهبين
وأسفر تقصير الحكومة عن سداد سندات بقيمة 1.2 مليار دولار في مارس (آذار) 2020 إلى تأكيد الانهيار. وقال رئيس الوزراء اللبناني آنذاك، حسان دياب، في كلمة متلفزة: «ديوننا أصبحت أكبر مما يتحمله لبنان». وأضافت جائحة فيروس كورونا المستجد والتفجير الهائل في مرفأ بيروت الذي وقع في أغسطس (آب) الماضي مزيدًا من الدمار للاقتصاد اللبناني.
وتشير التقديرات إلى أن خسائر المصرف المركزي اللبناني تتراوح بين 50 إلى 60 مليار دولار. وعرض صندوق النقد الدولي تقديم المساعدة، لكن المسؤولين اللبنانيين اتهموا سلامة بعرقلة عملية تدقيق حسابية حاولت الولايات المتحدة ودول أخرى تنفيذها لإفساح المجال أمام مساعدة صندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى إجراء تحقيق منفصل في ادِّعاءات الاحتيال في البنك المركزي.
ساسة بوست