المقدمة
لطالما تأثر اقتصاد فلسطين على نحو كبير بالقوى الخارجية، وكانت سيطرة السلطات الفلسطينية محدودة على هذا الملف. فقد مثّل الدعم المالي من الدول الغربية والعربية شريان الحياة لاقتصاد الضفة الغربية، بينما اعتمدت غزة على دعم المانحين من دول الخليج والمنظمات غير الحكومية. وبقي الاقتصاد الفلسطيني في حلقة مفرغة من انخفاض الدخل وضعف النمو مع ركود نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي منخفضا وارتفاع معدلات البطالة. كما يعتمد الاقتصاد بشكل عام على مساعدات المانحين بدلاً من التنمية المستدامة.
ومع استمرار الحرب على غزة، يمثل تدمير قطاع الزراعة ضربة قاسية للاقتصاد الفلسطيني وملايين الفلسطينيين. إذ تواصل القوات الإسرائيلية استهداف قطاع الزراعة في غزة استهدافاً منهجياً، فتجرّف الحقول والبساتين ومراعي الماشية، ما خلّف دماراً لم نشهد له مثيلاً على مدار قرن. فقد دُمر حتى الآن أكثر من 75% من الأراضي الزراعية في غزة، بحسب مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
إجمالي الناتج المحلي لفلسطين (الضفة الغربية وغزة)
يمثّل قطاع الزراعة في غزة جُزءا مركزياً من الاقتصاد المحلي، إذ ساهم بنحو 11% من الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني عام 2022. وفي العام نفسه، شكّلت الصادرات الزراعية 55% من إجمالي صادرات القطاع بقيمة 32.8 مليون دولار.
وكانت للمنتجات الزراعية الرئيسية، مثل الطماطم والخيار، الحصة الأكبر من تلك الصادرات، حيث بلغ مجموع عائداتهما 16.1 مليون دولار. وكانت الطماطم على وجه التحديد هي أكثر المحاصيل المصدرّة، إذ مثّلت 33.1% من إجمالي صادرات الزراعة عام 2022، يليها الخيار في المرتبة الثانية بنسبة 33%.
الحصار الإسرائيلي على الاقتصاد الفلسطيني
أدّت القيود التي تفرضها إسرائيل منذ زمن طويل على التجارة وحرية التنقل والوصول إلى الخدمات في الضفة الغربية وغزة دوراً رئيسياً في خنق النمو الاقتصادي.
فقد جعلت هذه القيود الاقتصاد الفلسطيني يعتمد بشكل كبير على المساعدات الخارجية فضلاً عن إخضاعه لسيطرة الحكومة الإسرائيلية. كما شهدت قطاعات رئيسية مثل الصناعة والزراعة تراجعاً ملحوظاً في السنوات الأخيرة. إذ انخفضت حصة الصناعة والزراعة في الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني، بينما ظلت معدلات الاستثمار منخفضة.
الاستثمار الأجنبي
أما الاستثمار الأجنبي المباشر، فقد بقي عند مستوى ضئيل للغاية مقارنة بالاقتصادات الأخرى في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، سجلت معدلات الادخار الخاصة مستويات منخفضة على مدار العقد الماضي، وهو ما يعكس حالة الاضطراب وغياب الأمن تحت حكم الاحتلال.
سعت بعض الدراسات الحديثة إلى بحث أثر تلك القيود الاقتصادية، فوجد البنك الدولي مثلا أنّ القيود المفروضة على الحركة والتنقل في المنطقة ج من الضفة الغربية فقط قد خفضت الناتج المحلي الإجمالي بنحو 35%.
غير أنّ معهد الأبحاث التطبيقية في القدس (أريج)، الذي استشهد به البنك الدولي، قدم تقديرات أكثر حدة، إذ قدر أنّ القيود الإسرائيلية المفروضة على الفلسطينيين أدت إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 74%، دون احتساب أثر الأنشطة بين القطاعات المهمة (مثل الزراعة والخدمات والبناء، وهي القطاعات التي يتداخل فيها الاقتصادان الإسرائيلي والفلسطيني). وتوقع صندوق النقد الدولي أنّ رفع تلك القيود السياسية والأمنية، قد يرفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتراوح ما بين %37-130%.
نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي لفلسطين (الضفة الغربية وغزة)
منذ اندلاع الحرب على غزة في 7 أكتوبر 2023، تدهورت المؤشرات الاقتصادية في الضفة الغربية وانهيار الاقتصاد في غزة. وفي حين كانت التوقعات تشير إلى احتمال تحقيق نمو بنسبة 3% قبل 7 أكتوبر، انخفض الناتج المحلي الإجمالي للأراضي الفلسطينية مجتمعة بنسبة 6.2% عام 2023 نتيجةً لتشديد القيود على الحركة وتراجع التجارة وفقدان الفلسطينيين لوظائفهم داخل إسرائيل، فضلاً عن تدمير البنية التحتية على نطاق واسع خاصة في غزة.
وقد ألغت إسرائيل تصاريح العمل لأكثر من 170 ألف فلسطيني يعملون داخلها، كما شهدت تحويلات إيرادات المقاصة من الحكومة الإسرائيلية انخفاضاً كبيراً، مما أدى إلى تفاقم الضغوط المالية.
وكثّفت إسرائيل أيضاً القيود على استخدام الأراضي والانتفاع بها وصعّبت إمكانية الوصول إلى المياه، تزامناً مع تجاهل عنف المستوطنين المتزايد وتوسع المستوطنات. وهكذا، أمعنت إسرائيل في تقطيع أواصر الضفة الغربية وقضت على أي أمل في تحقيق النمو. وفي الوقت نفسه، توقف الاقتصاد في غزة تماماً، ليصبح الاقتصاد الفلسطيني في حالة شلل.
تعاني السلطة الفلسطينية، التي يُفترض أنّ لها سلطة على أجزاء من الضفة الغربية، أزمة مالية شديدة في ظل تراجع مساعدات المانحين، وقد أصبح اعتمادها على الإيرادات التي تسيطر عليها إسرائيل أكثر هشاشة حالياً.
الاقتطاعات والمبالغ المحجوزة لدى إسرائيل
تعتمد السلطة الفلسطينية اعتماداً كبيراً على إيرادات المقاصة – وهي رسوم الجمارك والضرائب التي تجمعها إسرائيل- التي تشكل 68% من ميزانية السلطة. ومع ذلك، زادت إسرائيل من اقتطاعها لهذه الإيرادات منذ نوفمبر 2023، إذ خفضت 75 مليون دولار إضافية كل شهر، مما يزيد من الضغط على الموقف المالي المتأزم للسلطة الفلسطينية.
وفي عام 2022، بلغ عجز ميزانية السلطة الفلسطينية 682 مليون دولار، رغم تلقيها 243 مليون دولار من المانحين الدوليين. وبحلول عام 2024، انخفضت المساعدات أكثر، ما يعني أنّ فجوة التمويل عند السلطة الفلسطينية قد تصل إلى 1.2 مليار دولار.
ولإنقاذ الموقف، لجأت السلطة الفلسطينية إلى القروض المصرفية التي بلغت 2.5 مليار دولار حتى الآن، كما أجّلت مستحقات مورّدي القطاع الخاص وصناديق التقاعد. ولم يتلق موظفو القطاع العام سوى 80% من رواتبهم منذ أواخر عام 2021، لتزداد إجمالي الأجور غير المدفوعة إلى 800 مليون دولار.
الضفة الغربية: القيود والمداهمات ونمو الاستيطان الإسرائيلي
تعاني الضفة الغربية تحديات اقتصادية شديدة ازدادت وطأتها بسبب القيود التي فرضتها إسرائيل خاصة في المنطقة ج. وقد أدت هذه التطورات إلى تضييق الخناق على إمكانية الوصول للأراضي الفلسطينية وأضعفت أي فرصة لتعافي الاقتصاد من حالته المتردية. ومنذ أن شنت إسرائيل حربها على غزة في أكتوبر 2023، اشتد العنف في الضفة الغربية، وكثّفت إسرائيل مداهماتها وعمليات الهدم فضلاً عن توسع المستوطنات، وهو ما أدى كله إلى انخفاض حاد في النشاط الاقتصادي.
أدت المداهمات المتكررة للجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية إلى فرض قيود صارمة على حرية الحركة والتنقل حتى صار من الصعب على الموظفين الوصول إلى أماكن عملهم، وهو ما ترتب عليه زيادة تكاليف النقل وارتفاع مخاطر الاستثمار في الضفة. وقد رصد استطلاع أجرته منظمة العمل الدولية والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عام 2024 أنّ نحو 99% من الشركات الخاصة في الضفة الغربية تأثرت سلباً منذ 7 أكتوبر 2023، إذ أفاد 97% منها بتراجع حاد في المبيعات وهو ما أجبر كثير منها على تقليص قوتها العاملة.
وقد سُرّح واحد من كل أربعة موظفين في القطاع الخاص بالضفة الغربية -أي نحو 144 ألف وظيفة- مما أدى إلى ارتفاع معدل البطالة من 13% في الربع الثالث من عام 2023 إلى 32% في الربع الأخير من العام ذاته، بحسب منظمة العمل الدولية. وتوضح هذه الأرقام حجم التداعيات الاقتصادية الخطيرة في الضفة الغربية والتي تعقّد من الوضع الهش بالفعل وتضع مزيداً من الضغوط على الفلسطينيين في سبيل كسب العيش.
البطالة في فلسطين (الضفة الغربية وغزة)
كان لإغلاق سوق العمل الإسرائيلي أمام الفلسطينيين تأثير كبير، إذ كان يوّظف ما بين 150 ألف إلى 200 ألف عامل. وكان كثير من الفلسطينيين يعتمدون في كسب عيشهم على عملهم داخل إسرائيل، وهو ما مثّل ركيزة أساسية للاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية. وقد فقد حالياً أكثر من 80% من العمال الفلسطينيين وظائفهم، مما ساهم في انخفاض الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني بنسبة 32% حتى الآن.
ولا تستغل إسرائيل العمال الفلسطينيين من خلال توظيفهم في إسرائيل ومستوطناتها فحسب، بل تستخدم العمالة أيضاً كأداة للسيطرة والمراقبة. إذ يجب على الفلسطينيين من الضفة الغربية اجتياز عمليات تفتيش أمنية صارمة تديرها الإدارة العسكرية الإسرائيلية من أجل الحصول على تصريح عمل، ويعني ذلك أنّ عليهم هم وأسرهم تجنب أي نشاط سياسي أو نقابي تراه معادياً للاحتلال.
وبسبب اعتماد الاقتصاد الفلسطيني على إسرائيل، صار ذلك سبباً لإضعافهم سياسياً، إذ تستخدم سلطات الاحتلال الإسرائيلي آلية إغلاق المعابر وفرض القيود على الحركة كإجراءات عقابية، ما يدفع المجتمع إلى حافة الانهيار الاقتصادي.
الاقتصاد في فلسطين
من خلال توسيع المستوطنات وضم الأراضي الفلسطينية، تواصل إسرائيل عرقلة إمكانية نمو الاقتصاد الفلسطيني، فضلاً عن تقويض فرص حل الدولتين. فمنذ أكتوبر من عام 2023 وحتى يوليو من عام 2024، شُيّدت إسرائيل 25 بؤرة استيطانية جديدة غير قانونية على الأقل، كما صنّفت 24 ألف دونم من الأراضي الفلسطينية باعتبارها “أراضي دولة”، مما يسهل الاستيلاء عليها وتهجير أصحابها الفلسطينيين، بحسب منظمة السلام الآن.
وتتزامن هذه الأفعال مع ضخ استثمارات حكومية إسرائيلية ضخمة في المستوطنات، وهو ما يشمل خطط لبناء 8700 وحدة سكنية والموافقة على إنشاء خمس مستوطنات جديدة. وذلك بالإضافة إلى اعتراف الدولة بـ 70 بؤرة استيطانية ليصبح لها الحق في الحصول على تمويل حكومي ودعم للبنية التحتية.
كما تصاعد العنف ضد الفلسطينيين ووُثّق أكثر من 1100 هجوم استيطاني، ما أسفر عن طرد نحو 1400 فلسطيني من أرضهم. وعلى صعيد ممتلكات الفلسطينيين، ألحقت هجمات المستوطنين والجيش الإسرائيلي أضراراً جسمية شملت أكثر من 46 ألف شجرة. في الوقت نفسه، هدمت السلطات الإسرائيلية أكثر من 1200 مبنى لتشرّد أكثر من 2500 شخص. وساهمت أيضا سياسة نقص تصاريح البناء الإسرائيلية -وهي تصاريح يصعب على الفلسطينيين الحصول عليها- في تشريد 963 شخصاً.
وحذرت السلطة الفلسطينية من أنّ ضغوط التضخم وارتفاع معدلات البطالة وازدياد الفقر قد أثقلت كلها اقتصاد الضفة الغربية بضغوط غير مسبوقة. وتتعرض السلطة الفلسطينية بحسب الأمم المتحدة لـ”ضغوط هائلة” مما يعرقل قدرتها على العمل بكفاءة حتى بات الاقتصاد الفلسطيني يُوصف بأنه “في حالة سقوط حر”، وفقاً لنائب الأمين العام للأمم المتحدة، بيدرو مانويل مورينو.
قطاع غزة: أطلال اقتصاد
لم يقتصر العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة على تدمير البنية التحتية فحسب، بل دمرّت إسرائيل الاقتصاد المحلي بالكامل.
إذ يتجاوز الدمار الاقتصادي الهائل الذي لحق بقطاع غزة الضرر الإجمالي الذي لحق به في الحروب السابقة أعوام 2008 و2012 و2014 و2021، بحسب تقرير منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية المنشور في يوليو 2024.
وقد أدى الدمار الكبير في البنية التحتية وتشريد الملايين من سكان القطاع إلى شلل شبه كامل للإنتاج الاقتصادي في غزة. وبحلول أوائل عام 2024، كان ما بين 80% و96% من الأصول الزراعية في غزة قد تم تدميره، وهو ما يتضمن أنظمة الري ومراعي الماشية والبساتين والآلات، وفقاً للبيانات التي جمعتها مؤسسة إبسوس. ونتج عن هذا الدمار تعطيل الإنتاج الغذائي لتتفاقم مستويات انعدام الأمن الغذائي المتدينة بالفعل.
كما تأثر القطاع الخاص بشدة ودُمرت 82% من الشركات و83% من المرافق التجارية، بما في ذلك محلات السوبرماركت والبقالة والمخابز. وما تزال الحرب الدائرة تقوض الأسس الاقتصادية لقطاع غزة ليتضاءل الأمل في تعافي قطاع غزة اقتصادياً في المستقبل القريب.
وشهد الناتج المحلي الإجمالي لغزة انهياراً غير مسبوق، إذ انخفض بنسبة 81% خلال الربع الأخير من عام 2023، من نحو 670 مليون دولار إلى قرابة 90 مليون دولار فقط في أقل من أربعة أشهر. وفي عام 2023 ككل، أسفر هذا الانخفاض عن انكماش اقتصادي بنسبة 22%. وبحلول منتصف عام 2024، تقلص اقتصاد القطاع ليصبح أقل من سدس حجمه عام 2022، وفقاً لتقرير للبنك الدولي.
وتُقدِّر بيانات البنك الدولي أنّ حجم الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية، بما في ذلك شبكات الكهرباء، يتطلب ما يقرب من 280 مليون دولار لإصلاحها أو استبدالها. كما أفادت سلطة الطاقة والموارد الطبيعية الفلسطينية وشركة توزيع كهرباء غزة بأنّ الضربات الموجهة والمتكررة قد جعلت العديد من معدات الكهرباء في غزة غير قابلة للإصلاح، وهو ما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية.
وتواجه البنية التحتية للمياه والصرف الصحي في غزة وضعاً مماثلاً. فقد ألحقت الهجمات العسكرية الإسرائيلية أضراراً جسيمة بالمواقع الأساسية، مما أدى إلى انخفاض إنتاج المياه بنسبة 84%. وقد تعرضت 88% من آبار المياه في مدينة غزة وجميع محطات تحلية المياه للتلف أو التدمير حتى تكاد تنعدم المياه النظيفة المتاحة للسكان. بالإضافة إلى ذلك، انخفضت الإمدادات الخارجية من المياه من شركة المياه الوطنية الإسرائيلية “مكوروت” بنسبة 78%.
كما تعرضت أنظمة الصرف الصحي للتخريب، إذ دُمرت 70% من مضخات الصرف الصحي وجميع محطات معالجة مياه الصرف. وقد أدى ذلك إلى عواقب وخيمة على الصحة العامة، حيث يعاني 26% من سكان غزة الآن من أمراض يمكن تجنبها نتيجة نقص المياه النظيفة وخدمات الصرف الصحي.
وبخلاف البنية التحتية، تكبدت غزة خسائر بشرية كارثية. فقد أصبح نحو 1.2 مليون شخص بلا مأوى، وتضررت 62% من المباني السكنية. وسُوّيت المنازل بالأرض، إذ دمرت إسرائيل 141 ألف منزل تدميراً كاملاً وتضرر 70300 منزل بشكل بالغ. وتقدر مجموعة المأوى التابعة للأمم المتحدة أنّ عدد النازحين داخلياً في غزة يمثل نحو 1.7 مليون نازح، أي ما يمثل نحو 75% من السكان.
كما تعرضت البنية التحتية العامة، بما في ذلك الطرق، لدمار واسع في غزة حيث دمرت إسرائيل 62% من الطرق وهو ما عرقل بشكل كبير جهود النقل والإغاثة. وكانت الطرق الرئيسية الأكثر تضرراً بنحو 92% من إجمالي شبكة الطرق، 60% منها صارت غير قابلة للاستخدام. وأدى هذا الدمار الذي طال الأصول الثابتة لقطاع غزة، بالإضافة إلى صعوبة الحركة والتنقل بسبب الهجمات المستمرة، إلى شلل إضافي لاقتصاد القطاع الهش أصلاً، ما زاد من تدهور الظروف المعيشية للسكان.
وتشهد معدلات الفقر والبطالة في غزة ارتفاعاً حاداً، إذ أصبح الفقر متعدد الأبعاد حالياً يطال سكان القطاع كافة. ويواجه النازحون نقصاً حاداً في الغذاء والمياه والوقود، فضلاً عن صعوبة الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم. وقد يصل معدل الفقر في الأراضي الفلسطينية إلى 60.7% بعد أن كان 32.8% في منتصف عام 2023.
أصبح الاعتماد المتزايد على القروض والمساعدات الخارجية الوسيلة الوحيدة للتعامل مع الأزمة المالية والإنسانية المتفاقمة في غزة، بالإضافة إلى توفير الخدمات العامة الأساسية. وسيكون للمساعدات الإنسانية التي تتولى الأمم المتحدة تنسيق معظمها دور حيوي لأولئك المتضررين من الدمار الهائل الذي خلفته الحرب.
ومع ذلك، يُشكل حجم الدمار في غزة عائقاً ضخماً أمام جهود التعافي وإعادة الإعمار، مما يبرز الحاجة الملحة إلى دعم دولي ليس فقط لتلبية الاحتياجات العاجلة، ولكن أيضاً للتخطيط من أجل إعادة الإعمار على المدى الطويل بمجرد التوصل إلى وقف إطلاق النار.
نحو التعافي
تواجه إمكانية تعافي الاقتصاد الفلسطيني تحديات كبيرة، ولكن هناك عدة خطوات أساسية يمكن أن تساهم في انتعاشه. إذ يجب أن تكون جهود التعافي في غزة على درجة عالية من التنسيق مع التركيز على القطاعات التي يمكن أن تسهم بسرعة في جهود الإغاثة الإنسانية.
يُعد إصلاح قطاع الكهرباء في غزة أمراً جوهرياً، ويشمل ذلك إصلاح البنية التحتية مثل محطات توليد الطاقة ونقاط الربط عالية الجهد وأنظمة التوزيع. ويجب أن تتركز جهود الإغاثة الفورية على توفير المولدات والوقود وألواح الطاقة الشمسية لإعادة خدمات الطاقة الأساسية للقطاع بأسرع وقت ممكن. ومن الضروري فتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية لإعادة بناء المرافق الأساسية بالكامل مثل محطات المياه والصرف الصحي، إلى جانب المنازل والطرق والمباني العامة وكل البنى التحتية الحيوية اللازمة للحياة.
كما سيوفر وقف العدوان الإسرائيلي ورفع الحصار بيئة مناسبة لإعادة بناء القطاع الزراعي الذي يعتمد عليه اقتصاد غزة، ومن ثمّ إحياء الاستيراد والتصدير مع الدول المجاورة مثل مصر.
ومن شأن رفع القيود التي تفرضها إسرائيل على الحركة والتجارة في الضفة الغربية أن يساهم في تحسين الوصول إلى الأسواق. كما تُعد استعادة المساعدات الدولية وتشجيع نمو القطاع الخاص أمرين أساسيين لتحقيق الاستدامة على المدى الطويل.
يمكن أيضاً للاستثمارات في البنية التحتية الحيوية — مثل الطاقة والمياه والنقل — أن تساعد على استحداث فرص عمل واستقطاب الاستثمارات التي تحتاج إليها فلسطين. كما يجب دعم التنمية الزراعية والصناعية من خلال تسهيل الوصول إلى الأراضي، وتحديث التقنيات، وتعزيز المناطق الصناعية حتى تزداد الإنتاجية.
وستحتاج المشروعات الصغيرة والمتوسطة في الضفة الغربية إلى دعم مالي ومساعدة فنية نظراً إلى صعوبة الحصول على القروض من البنوك بسبب المخاطر العالية. وسيكون من الضروري أيضاً معالجة التحديات المالية التي تواجه الاقتصاد الفلسطيني بشكل عام من أجل تحقيق التعافي المنشود.
ومن الضروري أن تشمل الإصلاحات على المدى الطويل معالجة مسألة الأجور العامة المرتفعة، ونظام التقاعد، وتكاليف الرعاية الصحية، وصافي الإقراض لخلق بيئة مالية أكثر استدامة. كما يشكّل الحفاظ على الاستقلالية الفلسطينية في السياسة النقدية بعيداً عن تحكم إسرائيل محوراً رئيسياً للحفاظ على الاستقرار المالي.
وتتوقف هذه الجهود التي تستهدف إنجاز التعافي الاقتصادي على تحقيق الاستقرار السياسي، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي واستيلاء المستوطنين على الأراضي الفلسطينية، وكذلك إنهاء الحرب في غزة. وعندئذ فقط يمكن لفلسطين إطلاق العنان لإمكاناتها الاقتصادية بالكامل.
كتبه: نينو أرتو
حرره: إريك برينس
فنك