مقولة لم تفقد صلاحيتها قط، ولا مرة واحدة، لذا كان ميلاد شاعر في القبيلة العربية يعد بمثابة احتفال بمجد قادم، وبلسان سوف يحكي ويفخر بالمستقبل والماضي.
ومن الشاعر إلى المؤرخ في عصر الكتابة والكتب، رسخت المقولة عبر أقلام كانت تخطو جنبا إلى جنب مع المدافع والسفن عبر البحار، لتحكي ما تريد أن تحكيه، وتوثق معارك وأحداثا لا يراها إلا المنتصر.
ومن التحولات الهائلة التي يشهدها العصر الحديث، ذلك الذي التحول الذي دفع بالشاعر والكاتب والمؤرخ إلى ركن قصي، وحافظ على مكانة كل منهم في مساحة خاصة، بعيدا عن الشعوب، لتحل مكانهم الشاشة، بصفتها الأداة الأقوى لكتابة هذا التاريخ، أو لصياغة الذاكرة العامة حوله.
ولم تكن السيطرة الأوروبية على أفريقيا تقتصر على الجغرافيا والسياسة والاقتصاد خلال القرن العشرين، بل امتدت لتشمل “احتلال السرد”، فتحولت الكاميرا من أداة توثيق إلى سلاح استعماري جديد، مهمته ترسيخ صورة القارة السمراء أرضا مليئة بالوحشية، تنتظر المنقذ الأبيض المتحضر، وصُوّر ساكنها كائنا غامضا “آخر”.
وشكل ما بعد الاستقلال تحديا مضاعفا للقارة الأفريقية، فغدت مرحلة تحد لبناء الدولة والتحرر الاقتصادي، واستعادة السرد التاريخي المسروق، وتحريره من الكذب والتشويه الذي طاله.
كان على السينمائيين والمثقفين الأفارقة محاربة الذاكرة التي زرعتها أفلام هوليود وأوروبا عقودا، فقد صورتهم إما خلفيات صامتة في قصص المستعمرين، أو مصدرا للخطر البدائي الذي يجب ترويضه.
وقد أصبحت السينما الأفريقية، منذ أعمال روادها الأوائل أمثال السنغالي “عثمان سيمبين”، هي الجبهة الثقافية لمعركة التحرير التي لم تنته بعد، ولم تعد مهمتها تقتصر على الترفيه أو التوثيق، بل استعادة كرامة القارة البصرية والتاريخية.
فجوة سردية بين الشمال والجنوب
تجلت الفجوة السردية بين الشمال والجنوب واضحة على الشاشات، وكان بديهيا أن تحال أسبابها إلى الفجوة الإنتاجية، التي شكلت فجوة في الذاكرة السينمائية، فقد صُورت أفلام ذات إنتاج ضخم، لتحريف تاريخ صراعات كبرى، منها أزمة الكونغو وحرب التحرير الجزائرية.
وكان على صناع السينما الأفريقية بعد الاستقلال رأب الصدع، وتفكيك هذه الصور الزائفة، وتقديم رواية مضادة أصيلة، بدءا من رواية “قلب الظلام” (Heart of Darkness) للكاتب “جوزيف كونراد” (1899)، التي يركز على جنون الرجل الأبيض، وقد حُولت إلى فيلم عام 1994، من إخراج “نيكولاس روغ”.
تلقّ تنبيهات وتحديثات فورية بحسب اهتمامك. كن أول من يعلم بالقصص المهمةنعم، ابقني مطلعا
وجاءت صرخة “معركة الجزائر” (La battaglia di Algeri) الوثائقية للمخرج “جيلو بونتيكورفو” (1966)، ثم فيلم “خالا” (Xala) للمخرج “عثمان سيمبين” (1975)، وهي معركة ذاكرة لم تحسم فصولها بعد، وتظل شاشة السينما ساحة القتال الأبرز فيها.
اعتمدت السينما الغربية على سردية البطل الأبيض في أفريقيا، وهي سردية تخدم ترفيه الجمهور الغربي، ثم إنها آلية دفاع نفسية وسياسية، تجعل جرائم الاستغلال والوحشية أعمالا بطولية في بيئة معادية، لتأسيس الفكرة المركزية، ألا وهي أن الحضارة الأوروبية هي الضحية المحتملة للبيئة الهمجية التي تسعى لتنظيمها.
وتعد رواية “قلب الظلام” النص المؤسس لهذه السردية، وإن كانت الرواية نفسها تحمل نقدا للاستعمار. تدور القصة حول رحلة “مارلو” في أعماق الكونغو البلجيكية، بحثا عن التاجر الغامض “كورتز”، الذي انغمس في وحشية لا حدود لها.
يوضح التحليل السينمائي والنقدي أن معظم اقتباسات هذه الرواية تركز حصرا على اضطراب الرجل الأبيض نفسيا، ويظل الأفارقة خلفية صامتة أو رمزا للهمجية المحيطة التي تكشف جنون البطل، ومن أبرز الاقتباسات فيلم “القيامة الآن” (Apocalypse Now)، للمخرج “فرانسيس فورد كوبولا” (1979)، وقد نقل سياقه إلى حرب فيتنام.
في السياق الكونغولي الأصلي، كان الملك “ليوبولد الثاني” يستغل أرض “الكونغو الحرة”، ويراها مُلكا له، وذلك واحد من أفظع فصول التاريخ الاستعماري، ويقدر عدد ضحاياه بعشرة ملايين إنسان على الأقل، قتلوا أو ماتوا بسبب العمل القسري والتشويه.
لكن نادرا ما نجد فيلما غربيا ضخما، يركز على آلام السكان المحليين، بل يقدم لنا صورا عامة عن تضحية البيض أو نضالهم للبقاء في الغابة المعتمة، حتى أن الأفلام التي حاولت نقد الاستعمار، قد وقعت في فخ جعل الأوروبي هو المركز الأخلاقي للقصة، سواء كان منقذا أو منغمسا في الشر.
هذا النوع من التبييض السينمائي يخدم هدفين، أولهما إبعاد ذنب الحكومات الأوروبية عن فظائعها، بتحميل المسؤولية لأفراد مجانين مثل “كورتز”، وثانيهما ترسيخ فكرة أن الصراع الحقيقي هو بين الحضارة والتوحش، لا بين مستعمِر ومستعمَر.
التحرر السياسي.. بداية القصة
لم يكن التحرر السياسي نهاية القصة، بل بداية فصل جديد من التحديات، فقد ولدت السينما الأفريقية من رحم النضال، ولم تتردد في توجيه الكاميرا نحو الداخل، لتنتقد النخبة الجديدة التي ورثت السلطة بعد الانسحاب الأوروبي، ولكنها سرعان ما تبنت آليات الاستغلال والفساد الاستعماري القديمة. هذا النوع من الأفلام يقدم نقدا أعمق وأكثر تعقيدا لمرحلة ما بعد الاستعمار.
يعرض الكاتب الروائي الكيني “نغوغي وا ثيونغو” في كتابه “إزالة الاستعمار من العقل.. سياسات اللغة في الأدب الأفريقي” أن الاستعمار الثقافي لا يكتفي باحتلال الأراضي أو فرض النظام السياسي، بل يستهدف اللغة والذاكرة والهوية الجمعية، لكونها سبيلا أساسيا للسيطرة.
يرى المفكر الكيني أن “القنبلة الثقافية” تدمر ثقة الشعوب في أسمائها ولغاتها وبيئتها وتراثها، فتفقد القدرة على سرد ذاتها وحكايتها. من هذا المنطلق، فإن السرد -روايةً أو سينما- يصبح ساحة مقاومة، لا لاستعادة الصوت فقط، بل لاسترداد القدرة على تمثل الذات وقولها بحرية، خارج الصورة التي فرضها الآخر.
حين تطبق هذه الرؤية على السينما الأفريقية المعاصرة، فإن ما يحدث ليس مجرد إنتاج فيلم أفريقي أو استعراضا للثقافة الأفريقية، بل استيلاء سرديا مضادا، لإعادة تشكيل الصورة التي ظل الآخر يصوغها حول أفريقيا، وإعادة تعريف الذات السردية الأفريقية بكاميرا تخرج من مرآة الاستعمار لتواجه بها العالم.
هكذا تصبح السينما مثلما أراد “نغو نغي”، فتصبح أداة إلغاء احتلال السرد من الخارج، واستعادة الحق في السرد من الداخل.
وجوه الاستعمار المحلية
يُعد المخرج السنغالي “عثمان سيمبين” الأب الروحي للسينما الأفريقية. ففي فيلمه “خالا” (Xala)، يروي قصة الحاج عبد القادر، وهو رجل أعمال سنغالي يتبنى سلوك المستعمر، ويستعد للزواج من زوجته الثالثة. لكنه في ليلة الزفاف، يصاب بالعجز عن إتيان أهله.
إنها رمزية العجز السياسي والأخلاقي، فالعجز الذي أصاب الحاج هو رمز للعجز السياسي والأخلاقي الذي أصاب النخبة الجديدة، فقد تبنوا مظاهر الحكم الغربي من السيارات الفارهة، والملابس إلى اللغة، لكنهم ظلوا عاجزين عن تحقيق أي تنمية حقيقية لبلادهم، أو فك ارتباطها بالتبعية الاقتصادية.
يظهر “سيمبين” أن الاستعمار لم يرحل، بل تحول من احتلال أجنبي مباشر إلى سيطرة اقتصادية وثقافية، يمارسها وكلاء محليون، فالحاج عبد القادر هو الوكيل المحلي، الذي يبيع موارد بلاده لشركات أجنبية، ويتبنى نمط حياة المستعمر.
يجد الحاج عبد القادر علاجه في النهاية على يد الفقراء والمهمشين الذين طردهم، وتلك دعوة من المخرج للعودة إلى جذور الثقافة الأفريقية والطبقات المستغلة، فهي طريق الخلاص الوحيد من لعنة الفساد الموروث.
قدم “سيمبين” نموذجا سينمائيا أفريقيا لا يكتفي بإدانة الغرب، بل يمارس النقد الذاتي الحاد خطوة ضرورية نحو التحرر الكامل، وهو ما يميز سينما ما بعد الاستعمار الحقيقية.
توثيق لحظة التحرير في “معركة الجزائر”
كانت الحاجة إلى أفلام توثق النضال المسلح وتواجه وحشية القمع الاستعماري أولوية قصوى، ففي ظل غياب التمويل والبنية التحتية السينمائية في الدول المحررة حديثا، اضطرت بعض الحركات التحررية إلى التعاون مع مخرجين دوليين، لضمان أن تروى قصصها بصدق ووصولا عالميا، بعيدا عن الرقابة والتزييف الأوروبي.
فمن ذلك فيلم “معركة الجزائر” (La battaglia di Algeri) للمخرج الإيطالي “جيلو بونتيكورفو” (1966)، الذي مولته ودعمته جبهة التحرير الوطني الجزائرية، وهو أبرز مثال على التوثيق الفني للحظة التحرير، وهو نموذج فريد من نوعه في تاريخ السينما العالمية.
وقد اعتمد “بونتيكورفو” أسلوبا شبه وثائقي، باستخدام ممثلين غير محترفين، وتصوير في الشوارع، حتى أن كثيرا من المشاهدين حسبوه فيلما وثائقيا حقيقيا، لكن الواقعية كانت ضرورية لمواجهة الدعاية الفرنسية، التي صورت مقاومي الجبهة إرهابيين.
يتناول الفيلم السؤال الأخلاقي حول استخدام الطرفين للعنف، سواء القمع الفرنسي الوحشي مثل التعذيب والقنابل، ولجوء المقاومين الجزائريين لوضع القنابل في الأماكن العامة. يرفض الفيلم التبسيط، ويوضح أن عنف المقاومة إنما هو رد فعل على عنف القمع المنظم.
حُظر الفيلم في فرنسا سنوات كثيرة، لأنه كان إدانة تاريخية للجيش الفرنسي وأساليبه القمعية، لكنه أصبح دليلا إرشاديا لحركات التحرر حول العالم، بما في ذلك حركات التمرد الحضرية، وبذلك لم يقتصر تأثيره على الجانب الفني، بل تجاوزه إلى السياسي والعسكري.
ومع أن الكونغو شهدت إبادة جماعية على يد الملك “ليوبولد الثاني”، فإن الفيلم الذي يعادل “معركة الجزائر” في كشف الحقائق لم يظهر قط، فبقيت الذاكرة الكونغولية التاريخية مفتوحة للاختطاف أو التهميش حتى اليوم، ويكمن الفرق في إصرار القيادة الجزائرية على امتلاك السرد في مرحلة مبكرة من التحرير.
تقاليد تحارب التقاليد الضارة
بدأت السينما الأفريقية تدرك أن التحرر ليس رفع العلم فحسب، بل هو معركة طويلة الأمد ضد التبعية الثقافية والاقتصادية. هنا يظهر النقد الموجه للعادات الاجتماعية والتقاليد التي قد تكون ضارة، تحت غطاء مقاومة الحداثة الغربية.
ففي فيلم “مولادي” (Moolaadé)، للمخرج “عثمان سيمبين” (2004)، يبتعد المخرج عن نقد السياسيين مباشرة، ويركز على صراع ثقافي اجتماعي داخلي شديد الحساسية، فيتناول ممارسة الختان في قرية أفريقية.
تعني كلمة “مولادي” الحماية، ولم تكن القضية في العمل جزءا من الصراع مع أوروبا، بل حلقة من معركة داخلية حول من يحدد مستقبل الأمة. فـ”مانديسيا” هي كلمة السر التي تستخدمها بطلة الفيلم “كولي” لحماية الفتيات من الختان. وهذه الحماية التقليدية تستخدم لتحدي التقاليد الضارة الأخرى.
يحرص “سيمبين” على تأكيد أن الاستعمار لم يكن العدو الوحيد، ويشير إلى عدو داخلي يتمثل في النظام الأبوي، الذي يمارس القمع على النساء والأطفال باسم الشرف والتقاليد.
ويصور الفيلم أن أجهزة المذياع والاتصال البسيط أصبحت وسيلة النساء للتواصل وتبادل القصص، مما يكسر جدار الصمت التقليدي، وهو ما يوازي دور الإنترنت والمنصات الحديثة في حركات الاحتجاج المعاصرة.
ويثبت فيلم “مولادي” أن سينما ما بعد الاستعمار الناجحة، هي تلك التي تتجاوز إدانة الماضي الاستعماري نحو مساءلة الحاضر، فالأفلام الأفريقية الأصيلة ترفض أن تكون مجرد ضحية، بل تطالب بدور فاعل في التنمية الاجتماعية.
السينما مكتبةً للقيم
لم تكن السينما مجرد مرآة تعكس الواقع، بل هي أداة تشكيل للواقع والذاكرة، وقد أثبتت التجربة التاريخية أن القوى الاستعمارية، ومن بعدها الشركات السينمائية الضخمة، قادرة على اختطاف تاريخ أفريقيا، بتقديم روايات سطحية تخدم مصالحها النفسية والسياسية. لقد حولوا الكونغو إلى قصة “كورتز” المجنون، وتجاهلوا عشرة ملايين ضحية.
في المقابل، شكلت السينما الأفريقية بروادها -مثل “عثمان سيمبين” وغيره- جبهة مقاومة ثقافية. ومع أن أفلامهم لم تجلب أرباحا هائلة في شباك التذاكر العالمية، فإنها حملت مهمة أسمى، ألا وهي استعادة الكرامة وتأسيس سرد بديل، لا يركز على فظائع الماضي فقط، بل يواجه تحديات الحاضر، من الفساد إلى القمع الاجتماعي.
وفي زمن المنصات الرقمية والذكاء الاصطناعي وسرعة تدفق المحتوى، ثمة ضمان تقني أن يجد هذا الصوت الأصيل طريقه إلى الجمهور الغربي، الذي أصبح في حاجة إلى حقيقة تاريخ أجداده في أفريقيا، أكثر من الجمهور الأفريقي الذي عاشها وحفظتها ملامح حياته.
ولعل جزءا مهما من إنسانية الغربي، يتمثل في تجاوز نمطية صور المغامرة في الغابة، التي زرعتها هوليود في رأسه، ليرى القصص المعقدة، والتحديات العميقة، والانتصارات الصغيرة التي نالتها الشعوب الأفريقية في رحلتها نحو التحرر التام.
أسامة صفار – الجزيرة الوثائقية