في السادس من تشرين الأول (أكتوبر) 2024، قصف الطيران الحربي الإسرائيلي معبد جوبيتر في بعلبك. كما قُصفت مواقع آثارية أخرى بالقرب منه، وأُطلقت تهديدات لمواقع آثارية أخرى بهدف تدميرها. وفي فلسطين المحتلة، تحديداً في قطاع غزة، دمرت قوات العدوان أو ألحقت ضرراً كبيراً بأكثر من مئة موقع آثاري قديم، منها مثلاً «كنيسة القديس برفيريوس» التي يفوق عمرها ألفاً وستمئة عام، و«دير القديس هيلاريون» وعمره أكثر من سبعة عشر قرناً. ومن المساجد، دمّرت القوات الصهيونية المسجد العمري الكبير الذي يعود بناؤه إلى عهد صدر الإسلام، و«مسجد السيد هاشم» من العصر المملوكي، و«مسجد عثمان قشقار» الذي بُنيَ في عام 1223م وعشرات المساجد الأخرى.
إنها حرب من نوع آخر تشنها «إسرائيل» على جبهة ما انفكت تؤرّقها وتقلقها وهي جبهة العمق الحضاري الآثاري لفلسطين الكنعانية فالعربية، حيث أفلست الحركة الصهيونية وقراءتها التوراتية المزوِّرة للحقائق إفلاساً منقطع النظير باعتراف بعض العلماء والآثاريين الإسرائيليين. من هؤلاء على سبيل المثال زئيف هرتسوغ رئيس قسم الآثار في جامعة تل أبيب وصاحب الدراسة المثيرة «التوراة: لا إثباتات على الأرض»، ورولستون الخبير في النقوش السامية القديمة الذي رأى أنه «ليس صعباً فضح التزوير في هذا النقش لأنه ليس متقن الصنع ولا يمكن أن يؤخذ بجديّة على أنّه قديم». والمقصود هنا «نقش تل القاضي» الذي يسميه التوراتيون الصهاينة «نقش تل دان» المكتوب باللغة الآرامية القديمة، ويعتبرونه الدليل الحاسم على حكم سلالة «بيت داود» في العصر الحديدي، وبالتالي على تأريخية ما روته التوراة بخصوصهم.
تزوير أركيولوجي جديد
لا يكاد يمر عام أو حتى بضعة أشهر أحياناً إلا وتطلق المؤسسة الأركيولوجية الإسرائيلية واسمها الرسمي «سلطة الآثار الإسرائيلية» بالونَ اختراعٍ جديداً في سماء المشهد الإعلامي. دعونا نتفحص الاكتشاف الجديد الذي أعلن عنه يوم 21 تموز (يوليو) من العام الجاري في أكثر من موقع إسرائيلي معلوماتي ومتخصّص منها موقع i24news.tv الذي ترجمنا عنه هذا الخبر: «حفريات طريق الحج في مدينة داود… يوضح البروفيسور يوفال جادوت والدكتور يفتاح شاليف، أنّ هذا الخندق ربما كان مستخدماً منذ ما يقرب من 3000 عام، منذ عهد الملك يوشيا. إنه أحد أكثر التحصينات إثارة للإعجاب في القدس القديمة. يلقي هذا الاكتشاف المذهل في مدينة داود، ضوءاً جديداً على دفاعات المدينة في زمن ملوك الكتاب المقدس. يبلغ عمق الخندق 9 أمتار وعرضه 30 متراً. وكان بمثابة حماية للمدينة العليا، حيث يقع المعبد والقصر الملكي، عن طريق فصلها عن المدينة السفلى. ويؤكدان أنّ هذا الهيكل المهيب يشهد على قوة حكام أورشليم في ذلك الوقت».
لنفكّك حمولة هذا النص لكشف بعض مصادراته: «مدينة داود» مصطلح تلفيقي لا وجود له في الواقع الأركيولوجي ولا التأريخي القديم، وقد اعترفت التوراة نفسها بأنّ المقصود بمدينة داود «الحصن اليبوسي» نسبة إلى قبيلة يبوس الكنعانية، في جبل صهيون في ضواحي أورشليم القدس، وقد استولى عليه بحسب التوراة رجال داود وجعلوه مقر ملكه (2 صم 5: 6-9؛ 1 أخبار 11: 5، 7). أما في العصر الحديث، فالمقر يتعلّق بحي مقدسي عريق يسميه الفلسطينيون «حي سلوان». وقد بُعث هذا المصطلح التوراتي «مدينة داود» في ستينيات القرن الماضي تقريباً، وجُعل مصطلحاً أركيولوجياً. وحين عملت الآثارية البريطانية كاثلين كينيون في هذا الموقع لمدة أبعدتها السلطات الإسرائيلية من العمل لأنها خرجت بنتائج عملية مؤيدة بالأدلة الآثارية تهدّد المشروع الإسرائيلي، إذ أكّدت كينيون أنَّ لا وجود لآثار ترجع إلى القرنين الحادي عشر والعاشر ق.م، ولا وجود لما يسمى بالمملكة الإسرائيلية المتحدة، وأنَّ الآثار التي وجدتها في المنطقة التي تسمى «مدينة داود» تسبق إنشاء المملكة المزعومة بسبعة قرون كاملة، وإنها تخص اليبوسيين الكنعانيين بُناة القدس الأوائل.
وفي المناسبة، لا علاقة لتسمية صهيون بالحركة الصهيونية الحديثة، ولا بالتوراة القديمة بل هي وصف طوبوغرافي باللغة الكنعانية للجبل، كما يقول الباحث المقدسي إيهاب الجلاد، الذي يرى أنّ «الجبل حين ذكر بمسماه هذا في التوراة، فهذا يعني أنّه موجود قبل ظهور بني إسرائيل، وما جاء كان وصفاً لمكان قائم أصلاً»، مضيفاً أنّ «صهيون» أحد أسماء مدينة القدس قديماً، وأرجح التفسيرات تتحدث عن جذر فعل ثلاثي (صهو) أضيفت له «واو» و«نون» للتصغير أو دلالة المكان، حاملاً معاني شتى كالمكان العالي الحصين، أو الأرض الجافة. وعدا عن جبل صهيون في القدس، يحمل جبل في ريف اللاذقية في سوريا، وآخر في اليمن اسم «صهيون» كناية عن علوهما ومنعتهما. ثم إنَّ علماء أجانب آخرين اعتبروا تسمية «مدينة داود» نوعاً من «تسييس التراث الحضاري» من قبل باحثين إسرائيليين، ومن هؤلاء الباحث أحمد الدبش، إلى جانب ويندي بولان وماكسيميليان غويازدا في دراستهما «القدس – مدينة داود: تسييس التراث الحضاري» (ترجمه محمود الصباغ). في هذه الدراسة، يخلص الباحثان إلى النتيجة الحاسمة الآتية: «تعدّ مدينة داود من نواحٍ كثيرة شهادة مثيرة على قابلية تطويع المواقع التراثية بشكل عام، والمواقع التاريخية في القدس على وجه الخصوص. ففي غضون بضع سنوات، أعيد تشكيل حي بأكمله ليتوافق مع مشروع أيديولوجي وإقليمي محلي مهيمن ». بكلمات أخرى، فإن مصطلح «مدينة داود» مصطلح أيديولوجي صهيوني مسلح بقوّة الاحتلال وخالٍ من أي محمول آثاري علمي. نقطة أخرى تتعلّق بالملك يوشيا الذي يُنسب الخندق أو الحصن إليه، وهو وفقاً للرواية التوراتية ملك مملكة يهوذا الجنوبية الصغيرة حول أورشليم القدس بين عامَي 641 ق م و 609، ولم يكن أكثر من زعيم محلي -أو شيخ عشيرة صغيرة بتعبير توماس تومسون – وكان خاضعاً للمملكة الرافدانية الآشورية ومهمته صدّ التوسع المصري. وقد قُتل يوشيا في إحدى المواجهات ضد الجيش المصري.
يؤرّق إسرائيل العمق الحضاري الآثاري لفلسطين الكنعانية فالعربية
في تلك المدة، أي القرن السابع قبل الميلاد، الداخل في العصر الحديدي الثاني المتأخر نسبياً، كانت القدس، كما تقول الباحثة الهولندية المتخصّصة مارغريت شتاينر: «من هذه الفترة (التي وصفتها مصادر التوراة بالعصر الذهبي) لم يعثر على كثير من البقايا الأثرية في القدس: جزء من سور المدينة فوق التلة، والمبنى الحجري المدرج، وبعض الأنقاض التي نشأت من مبنى عام ضخم؛ هذا كل شيء. وهذا يقع في تعارض كبير مع كل أعمال البناء التي نسبت إلى الملكين داود وسليمان » (ص 82- 83). وتضيف شتاينر: «استناداً إلى الدلائل الأثرية يمكن وصف القدس في القرنين العاشر والتاسع قبل الميلاد بأنها مدينة صغيرة محصنة. لا يزيد حجمها عن (12 هكتاراً). ومن الممكن أنها كانت تتسع لسكنى ألفي نسمة» (ص 154). لكن «يبدو من غير المحتمل أنّ هذه القدس كانت عاصمة «المملكة المتحدة» المذكورة في النصوص التوراتية» (ص 154)، فـ «المملكة المتحدة ليست حقيقة تاريخية» (ص 154). ويبدو أنّ البلدة قد نمت وتطورت بعد قرنين أي في القرنين السابع والثامن ق.م كما يلاحظ فتحي خطاب. ثم انتهت هذه المدة بتدمير المدينة مرتين على يدي الآشوري سرجون الثاني عام 722 ق.م، ثم على يدي نبوخذ نصر الكلداني عام 587 ق.م.
ومن تلك الحصون حول بلدة أورشليم القدس اليبوسية في العصر البرونزي، ثمة حصنان معروفان ذكرهما الباحث العراقي خزعل الماجدي في كتابه «تاريخ القدس القديم – ط1- 2005 »، حيث قال: «الأول حصن شرقي على جبل أوفل تطور لاحقاً إلى قلعة… والثاني على جبل صهيون، ويبدو أنه هو الذي سمته التوراة في ما بعد «قلعة داود» وقد بناه اليبوسيون أولاً» (ص118) أما إسرائيل فلنكستين، صاحب الكتاب المثير «التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها»، فيصف أورشليم العصر البرونزي هذه بأنّها «مدينة بائسة مشيدة على منحدر، محاطة بالقرى، والشَّعب كان قليلاً، وبالجملة كان أمياً منعزلاً وغير مستقر».
فهل كان هذا الخندق المكتشف حديثاً، الذي يخبرنا عنه بابتهاج الإعلام الإسرائيلي، هو من النوع ذاته الذي اكتشف، وذكرته شتاينر والماجدي في كتابيهما الصادرين قبل عقدين، أو أنه حصن آخر يشبهه ولا قيمة علمية وتأريخية كبيرة له؟ وهل يكون الكلام عن «خندق تحصيني ضخم » يبلغ عمقه 9 أمتار على الأقل وعرضه 30 متراً – لم يخبرونا شيئاً عن طوله – وعن مدينة عليا وأخرى سفلى ومعبد مهيب وقصر ملكي، مجرد كلام إنشائي فارغ ولا معنى له، وأن الحقيقة تتعلق بواحد من خنادق وحصون دفاعية بدائية عدة استعملت في القرى والبلدات المتناهية الصغر كبلدة أورشليم اليبوسية القديمة ذات الألفي نسمة آنذاك؟
ختم حجري ذو تأثيرات آشورية
أعلنت «سلطة الآثار الإسرائيلية » في شهر آب (أغسطس) من العام الجاري عن اكتشاف «ختم حجري نادر وفريد» يعود تاريخه إلى فترة الهيكل الأول وعليه كتابة عبرية قديمة وصورة شيطان أو جني حامٍ في القدس، وكتب عليه «بالعبرية القديمة اسم هوشاياهو، الذي شغل منصباً مهماً في إدارة مملكة يهودا، بحسب تقديرات «سلطة الآثار الإسرائيلية». وعندما مات هوشاياهو، ورث ابنه يهوزر الختم و«أضاف اسمه واسم والده إلى جانبي الشيطان»، من أجل «أن ينسب إلى نفسه بشكل مباشر الصفات المفيدة التي يعتقد أن التعويذة تتجسد ككائن سحري» وفقاً لفرضية علماء الآثار. سنكتشف بسهولة أنّ هذه المعلومات محض هُراء يخلو من المعنى العلمي؛ فربط هذا الاكتشاف الذي يحدث مثله كثيراً في مصر والعراق وسوريا، ويعثر طلابُ المدارس خلال سفراتهم المدرسية بشكل مستمر على مثيلاته من أختام أسطوانية وشظايا فخارية، لا علاقة لها بالهيكل الأول، وهي تنطوي على عبث وقسر أيديولوجي لا علاقة له بعلم الأركيولوجيا. وأما ما يسمّونه «عبرية قديمة» المزعومة، فهي اللغة الكنعانية الأم نفسها بلهجة محلية في منطقة تلال وسط فلسطين حول أورشليم إلى جانب اللهجات الكنعانية الأخرى كالفينيقية والموآبية والعمونية وأدومية.
ومن الواضح أن وصف حامل الختم بأنه «كان يشغل منصباً مهماً في إدارة مملكة يهودا» هو مجرد تخمينات وتخيّلات لا قيمة لها، وباعتراف التقرير الإخباري نفسه فهي ليست إلا «افتراضات وتقديرات سلطة الآثار الإسرائيلية». وربما كان الشيء الوحيد المفيد في كل هذا الكلام ما قاله عالم الآثار الآشوري فيليب فوكوسافوفيتش بأنّ «شخصيات الشياطين المجنّحة معروفة في الفن الآشوري من القرن التاسع إلى القرن السابع قبل الميلاد، وكانت تعتبر نوعاً من الملائكة الحامية». فهذا كلام يشير بوضوح إلى الأصل الآشوري الوثني التعددي للنقش الرافداني، ولا علاقة له بالتوحيد التوراتي اللاحق في المملكة المزعومة. وربما كان الختم عائداً إلى جندي آشوري شارك في الحرب الآشورية آنذاك، أو إلى مواطن كنعاني وثني من سكان ضواحي أورشليم وهو الأرجح. أما عبارة «الجني المجنح هو شخصية سحرية وقائية في علم الآثار الإسرائيلي والإقليمي»، فيظهر فيها التلفيق الصهيوني الآثاري واضحاً، فمحرّر هذه الجملة يريد بأي شكل من الأشكال أن يزجّ باسم إسرائيل إلى جانب علم الآثار الإقليمي أي الرافداني بشقيه العراقي والسوري والمصري.
هناك جملة أخرى مهمة وردت في التقرير الإخباري تقول: «ويبدو أنّ الختم كان يحتوي في الأصل على صورة الجني المجنح فقط، مع كتابة النص لاحقاً». وتضيف: «النقش العبري القديم تمت كتابته بطريقة غير متقنة على عكس النقش الدقيق للجني»، ما يشير إلى أنه ربما كان «يهوزر نفسه هو الذي نقش الأسماء على القطعة». من الواضح أنّ هذه المعلومات تقودنا إلى الإقرار بوجود نقش قديم للجني المجنح (ذي التأثيرات الآشورية) – وهذه عبارة تلفيقية تحاول الالتفاف على حقيقة أنّ النقش آشوري وثني ولا علاقة له بأي عقيدة توحيدية لاحقة – كتب عليه شخص آخر هو يهوزر باللغة الكنعانية وبشكل غير دقيق اسمه واسم أبيه. ثم يبلغ العبث ذروته في ربط الاسمين الظاهرين في النقش «هوشاياهو وابنه يهوزر» بأسماء وردت في التوراة كاسم «ليوزر»، أحد محاربي الملك داود المذكورين في سفر أخبار الأيام الأول (12: 7) وباسم «عزريا بن هوشعيا» في سفر إرميا (43: 2) و«هوشعيا» بالشكل المختصر لهوشياهو.
هذا عن الختم الحجري ذي التأثيرات الآشورية؛ فماذا عن النقش الفينيقي على زرّ ذهبي صغير عثر عليه في أورشليم القدس؟ وماذا بخصوص ما يسمونه «بوابة إسرائيل الأولى» قبل 5500 عام، أي قبل أن يرد أول ذكر في التاريخ للعبرانيين في إحدى «رسائل تل العمارنة » بأكثر من ألف سنة؟ وماذا عن مشروع القانون الصهيوني الجديد الهادف إلى مصادرة تراث وآثار فلسطين في الضفة الغربية كلها؟ هذا ما سوف نتوقف عنده تفصيلاً في مناسبة قادمة قريباً.
علاء اللامي – الأخبار