يتحدث المراقب العسكري في صحيفة “إزفستيا” المسكوفية، أنطون لافروف، عن أسباب انسحاب القوات الروسية من الضفة اليمنى من نهر الدنيبر في منطقة خيرسون، والآفاق المباشرة للعملية العسكرية الروسية الخاصة في الأراضي الأوكرانية، خلال المرحلة المقبلة.
وفيما يلي نص المقال كاملاً منقولاً إلى العربية:
ألقت القيادة الأوكرانية، في آب/أغسطس من العام الحالي، في المعركة، احتياطياتها الاستراتيجية المتراكمة على مدى 6 أشهر. تمكّنت من دفع القوات الروسية نحو الضفة اليمنى من نهر الدنيبر في منطقتي خيرسون ونيكولاييف. ومع ذلك، تصدّت القوات الروسية لهذا الهجوم القوي، وألحقت بالعدو خسائر فادحة. لقد صدّت جميع هجمات العدو اللاحقة بنجاح. لكن، ما الذي تغيّر اليوم، ولماذا كان على القيادة الروسية اتخاذ القرار الأصعب بمغادرة خيرسون وجوارها؟
بفضل الحِرَفية العالية للجيش الروسي، كان من الممكن المحافظة على تكافؤ عسكري هشّ هناك، على الرغم من الميزة العددية الكبيرة للعدو. لكنّ التعقيد المتزايد باستمرار، بشأن تزويد المجموعات الروسية المقاتلة بالمعدات والذخيرة، بات مشكلة أساسية. منذ بداية العملية الخاصة، كانت لدى القوات العسكرية والسكان المحليين، في الضفة اليمنى، ثلاثةُ خطوط اتصال تصل المنطقة بالأراضي الروسية عبر نهر الدنيبر ذي الحوض الواسع: جسر أنطونوفسكي في خيرسون، وجسر السكك الحديدية القريب، وسد محطة كاخوفسكايا لتوليد الطاقة الكهرومائية. وعلى الرغم من كل المحاولات، خلال الأشهر القليلة الأولى، فإنّ القوات الأوكرانية لم تتمكّن من تدمير الخطوط البرية الثلاثة.
كانت أول دعوة إلى الاستيقاظ من أجل الضفة اليمنى للدنيبر هي معركة جزيرة زميني، في نهاية حزيران/يونيو الماضي. هناك، استُخدمت، للمرة الأولى، المقذوفاتُ والصواريخ الطويلة المدى والعالية الدقة، والتي زودت الولايات المتحدة بها أوكرانيا على نطاق واسع، ثم أصبح من الواضح أن أنظمة الدفاع الجوي المتاحة لا تضمن اعتراض تلك الصواريخ بنسبة مئة في المئة. وإذا فقدت الأسلحة العالية الدقة فالنصر غير متاح. لكن، لم تُحَلّ المشكلة بالكامل حتى يومنا هذا. ووفقاً للقائد العام للقوات المسلحة، سيرغي سوروفيكين، على الرغم من الإجراءات المضادة للطائرات، فإن ما يصل إلى 20 في المئة من الصواريخ الموجَّهة تصل إلى أهدافها.
بالإضافة إلى ذلك، بدأت المدفعية الأوكرانية، منذ أيلول/سبتمبر، استخدام قذائف “M982A1 Excalibur”، من عيار 155 ملم، والتي يتم تصحيح مسارها من البنتاغون بعد إطلاقها بواسطة نظام تحديد المواقع العالمي (GPS). وعلى الرغم من أن مداها وكمية المتفجرات فيها أقل كثيراً من صواريخ “هيرماس”، فإن من المستحيل، بصورة عامة، اعتراضها بواسطة أنظمة الدفاع الجوي. ولتعطيل روابط النقل، أطلق الغرب مئات الصواريخ، لكنه حقق هدفه. منذ آب/أغسطس، تم تعطيل جسري الطرق والسكك الحديدية المؤدية إلى خيرسون. كان من الممكن أيضاً تعطيل الطريق البديل عبر سد محطة كاخوفسكايا لتوليد الطاقة الكهرومائية. كما تعرّض ميناء خيرسون لهجمات صاروخية.
لم تُقطَع طرق الوصول بصورة كاملة. لكن، بات من الضروري الآن، من أجل الوصول إلى الضفة الأخرى، استخدامُ العبّارات والعوامات والقوارب. لقد نشأ وضع صعب بصورة خاصة مع نقل المركبات المدرعة الثقيلة، سواء للدعم أو للصيانة. كان من الصعب للغاية نقلها إلى الضفة التي تقع فيها خيرسون. اعتمد الدفاع على قدرة المشاة والمظليين على التحمل، فأنشأوا شريطاً دفاعياً في الحقول والمزارع والغابات في منطقة خيرسون، بناءً على الدعم الفعال من المدفعية والطائرات.
كل كتيبة في يوم المعركة تتطلب عدة شاحنات محمَّلة بالإمدادات. حتى أشجع جندي بحربة واحدة لن يفعل الكثير الآن. تحتاج كتيبة المدفعية إلى المزيد. أدت الصعوبات في طرق الإمداد إلى نقص الذخيرة. كانت الاحتياطات تتضاءل، بالإضافة إلى عدد المعدات العسكرية الصالحة للاستخدام. ولم تكن هناك فرص في تغيير الوضع جذرياً. انخفضت القدرة القتالية للمجموعات المقاتلة. ويمكن لإحدى الضربات المستمرة أن تخترق الدفاعات الضعيفة، وتقطع الإمداد القليل المتاح، وتخترق الشريط الدفاعي.
من المؤكد أن القيادة العسكرية نظرت في احتمالات أخرى إلى جانب انسحاب القوات. كان من الممكن محاولة الانسحاب من خط الجبهة الحالي إلى خطوط أخرى أقرب إلى خيرسون. وهذا من شأنه أن يجعل من الممكن تقليص عرض خط الجبهة، وتكثيف تشكيلات القتال والاعتماد على البيئة المبنية. ستكون القوات محمية بصورة أفضل من المدفعية والضربات، حتى لو كانت الأسلحة دقيقة. سيكون من الممكن الاحتفاظ بالمدينة، حتى في ظروف نقص الإمدادات، لعدة أشهر. لكن المستلزمات الضرورية كان يجب أن تسلّم في الليل، بواسطة قوارب صغيرة، تحت نيران المدفعية المستمرة، مع خسائر دائمة لا مفرّ منها. هناك يمكن التعرض لنيران الأنظمة العالية الدقة والباهظة الثمن، وفي الأماكن المكشوفة على طول النهر ستكون عرضة للمدفعية الميدانية التقليدية كذلك.
لم يكن الوضع العام ليتغير لو تأخّر الدفاع. احتمال إبرام معاهدة سلام ليست في الأفق. كما أن الجسور الجديدة، غير المعرّضة للصواريخ والقذائف، لم تكن لتظهر عبر نهر الدنيبر أيضاً. يمكن للقيادة الأوكرانية في أي لحظة أن تضع ورقة رابحة على الطاولة، عبر تفجير القنوات في محطة كاخوفسكايا لتوليد الطاقة الكهرومائية وزيادة تدفق المياه. وهذا من شأنه أن يُحدث فيضان نهر الدنيبر لعدة أيام، أو حتى أسابيع، وسيجعل من المستحيل تقريباً إمداد الحامية بأي شيء، الأمر الذي يجعل من الممكن عزلها تماماً ومحاولة إلحاق الهزيمة بها.
كان الدفاع في المدينة سيؤدي إلى تدمير كارثي لخيرسون، وموت سكانها. لقد رأينا جميعاً بالفعل ثمن المعارك داخل المدن، على سبيل المثال ماريوبول وسيفيرودونتسك وبوباسنايا.
بعد انسحاب القوات الروسية، باتت تلك المعابر، التي دمرها الأوكرانيون أنفسهم في السابق، تحاصرهم اليوم، وتمنعهم من عبور النهر. تُظهر صور حديثة من الأقمار الاصطناعية الآن بناء خط من التحصينات عند النهر. فبعد تلقي دروس صعبة من محطة زاباروجيا للطاقة النووية، من غير المرجح أن يقرر العدو القيام بمغامرة جديدة، ولا يمكنه نقل التشكيلات الثقيلة في ظل الظروف المستجدة.
سيحتاج بناء خط دفاعي على طول النهر إلى قوّات أقل كثيراً، وسيتم نقل التشكيلات التي انسحبت إلى قطاعات أخرى من الجبهة. بعد الوصول إلى الأهداف التكتيكية للهجمات في منطقة أوغلدار وأرتيموفسك وكريمينايا وسفاتوف، من المرجح أن تنتقل القوات الروسية إلى الدفاع الاستراتيجي لمرحلة الشتاء. هناك، ستكون مفيدةً الخبراتُ المكتسبة في القتال العنيف في الضفة اليمنى. بالطبع، سيستغلّ العدو هذه المرحلة أيضاً، وقد ينتهي الأمر بتفكيك التجمع العسكري الكبير، والذي كان مخصَّصاً للهجوم على خيرسون. وبعد الاستعداد سيوجَّه في اتجاه استراتيجي آخر. لذلك، لا أحد يخطط للاسترخاء. من غير المحتمل أن يتخذ أحد الطرفين قراراً بشأن الهجمات الكبرى في فصل الشتاء.
يجب استخدام مدة التوقف المقبلة للتدريب الكامل للقوات المحتشدة وتجديدها. من الضروري إطلاق إنتاج ضخم لأسلحة رخيصة الثمن، لكنها فعالة للغاية، وأثبتت نفسها بصورة ممتازة في الدفاع عن خيرسون، ومنها المقذوفات الموجَّهة والطائرات المسيَّرة والأسلحة العالية الدقة ومعدات الاتصالات. يجب أن يبدأ الجيش الروسي الحملة التالية على مستوى تقني جديد.
نقلها إلى العربية: عماد الدين رائف