غني عن القول إن الأميركيين لم يكونوا يوماً بعيدين عن أي أزمة ذات طابع دولي، لا لأن أصابعهم تظهر دائماً في كل مواجهة أو صراع أو أزمة ذات أبعاد إقليمية أو دولية فحسب، بل لأن مصالحهم متداخلة – لا بل هم أدخلوها – في أغلب مناطق الصراع الاستراتيجي حول العالم أيضاً. كيف لا ولديهم أكثر من 800 قاعدة عسكرية منتشرة بين البحر والبر، وما يقاربها من السفارات أو الجمعيات أو المؤسسات ذات الطابع الدولي بين المالية والاقتصادية والبيئية والسياسية وغيرها، وجميع هذه النقاط أو المواقع أو المؤسسات، العسكرية والمدنية، تعمل ضمن استراتيجية واحدة، تعد نقطة ارتكازها الأساسية المصالح الأميركية!
تابع الجميع انسحابهم غير الطبيعي من أفغانستان، والتمس حجم ما أصابهم معنوياً وعسكرياً وسياسياً جراء هذا الانسحاب غير المتوازن، والذي أطاح كل ما خططوا له ودفعوه أو خسروه – بحسب المعلن على الأقل – ولكن من غير المعقول أو من غير المنطقي أن لا يحاولوا جعل هزيمتهم نقطة تحول يحققون عبرها هدفاً أو أكثر يخدم استراتيجيتهم الثابتة دائماً وأبداً: “السيطرة وبسط النفوذ حول العالم”.
إن الحركة الإقليمية ذات الطابع الدولي اليوم، كما يبدو، لم تعد تتركز في منطقة الخليج ومضيق هرمز وبحر العرب، كما كان الوضع قبل الانسحاب الأميركي من أفغانستان، فالسعودية وإيران تقتربان من التوصل إلى تفاهم غير بسيط، وملف اليمن ليس بعيداً عن هذا التفاهم، وسوريا تخلصت من الحصار، وهي تستعد اليوم لسلوك المسار العربي التقليدي من دون عزلة، ويبدو أن ملف لبنان على سكة الحلحلة، ولكن الأنظار اليوم تتركز على الأزمة بين إيران وأذربيجان.
وبمعزل عما ظهر حولها حتى الآن بما يوحي أنها أصبحت تحت السيطرة، بعد ما حققته إيران من رسائل عبر المناورات الضخمة غير المسبوقة على حدودها الشمالية الغربية، أو من خلال المواقف والتصريحات السياسية الحاسمة والواضحة حول الخطوط الحمر التي لن تسمح بتجاوزها، ومع مقاربتها للموضوع بطريقة ذكية ودبلوماسية، وبسبب أهمية ما يحيط هذه الأزمة من عناصر حساسة جغرافياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً وديمغرافياً، وبالتالي استراتيجياً، فإنها مرشحة لأن تبقى تحت الأضواء، على الأقل لفترة غير بسيطة، كما هو ظاهر حتى الآن.
ما هي هذه العناصر التي تحيط بالأزمة بين إيران وأذربيجان؟ وكيف يمكن أن تكون تأثيراتها في الطرفين أولاً، وفي الدول المحيطة بهما مباشرة ثانياً، وفي الصراعات الدولية بين الشرق والغرب ثالثاً؟
نبدأ من إعلان تركيا المفاجئ مؤخراً عن تخطيطها لإجراء مناورات عسكرية مشتركة مع أذربيجان هذا الأسبوع في ناختشيفيان الآذرية عند الحدود مع إيران وأرمينيا، وذلك بين الخامس والثامن من الشهر الحالي. وبعد أن كانت أنقرة قد انتقدت إيران لقيامها بتنفيذ مناورات وتدريبات عسكرية غير مسبوقة على حدودها الشمالية الغربية – مع تركيا وأذربيجان وأرمينيا – تأتي مناورات تركيا المشتركة مع باكو اليوم لتصب الزيت على النار، وتعيد فتح الصراع وتسعير الأزمة من جديد، بعد أن كانت التهدئة قد سلكت مساراً واضحاً.
في الواقع، وفي متابعة لمسار التدخلات التركية في الإقليم وفي المناطق المحيطة بها أو القادرة على التأثير فيها، بين ليبيا أو سوريا أو اليونان أو البحر الأسود (القرم وأوكرانيا) ووصولاً إلى اليمن، كانت أنقرة تؤدي دائماً بالنسبة إلى الأميركيين دور البدل عن ضائع أو البدل عن اللاعب الأساسي، لتكون فعلياً البيدق الأميركي الخفي، والذي ينفذ مناورة واشنطن في الخفاء، وتحت غطاء خادع من الصراخ والانتقاد للأميركيين، ولتكون النتيجة عملياً، هي تثبيت استراتيجية واشنطن أكثر وأكثر في الساحات والأماكن التي تدخلت فيها أنقرة، وملفات سوريا وليبيا وأوكرانيا خير دليل على هذه المقاربة.
إذاً، من الطبيعي أن نبحث عن الدور التركي المرتقب في تعكير التسوية أو التهدئة بين إيران وأذربيجان، والهدف يبقى دائماً تنفيذ استراتيجية الأميركيين، فما هي عناصر وأهداف استراتيجية واشنطن، والتي يمكن أن تتحقق من خلال الأزمة بين إيران وأذربيجان؟
جغرافياً، تُشكل منطقة التوتر حالياً بين إيران وأرمينيا وأذربيجان وتركيا المنطقة الأكثر حساسية جنوب القوقاز أو عملياً جنوب روسيا. وحيث تربط هذه المنطقة البحر الأسود ببحر قزوين، وتربط الصين وإيران بجنوب القوقاز وروسيا من جهة، وبآسيا الوسطى من جهة أخرى، وفي المسار الأبعد، تربط الصين بأوروبا، وروسيا بالشرق الأوسط والخليج، يمكن من خلال هذا الموقع الحساس تلمّس ما يمكن أن تقدمه هذه المنطقة للاستراتيجية الأميركية من نقاط.
من الناحية العسكرية، ليس بسيطاً ما يُمكن أن يخلقه أي توتر واسع في تلك المنطقة من تأثير في الأمن القومي الروسي، إذ نتكلم عن منطقة مختلطة ديمغرافياً، ولدى شعوبها ارتباطات حساسة مع شعوب وقوميات روسية أو تابعة لدول الاتحاد السوفياتي سابقاً. ومن خلال أي توتر في تلك المنطقة، يمكن تشكيل حزام من الضغط العسكري والأمني على روسيا، يجعلها مضطرة إلى تسخير جهود ضخمة لإمساك وإقفال الثغرات المؤثرة في أمنها القومي. هذا الموضوع وحده قادر على إشغال موسكو – ولو جزئياً – عن الكثير من نقاط المواجهة الاستراتيجية مع واشنطن في أمكنة أخرى، مثل القطب الشمالي مثلاً، إلى شرق أوروبا أو الشرق الأوسط وغيرها من أماكن الصراع بين القطبين.
من جهة أخرى، قد لا يكون الأميركيون، ومن خلال خلق هذا التوتر وتسعيره في جنوب القوقاز، يسعون لاستهداف الصين أمنياً وعسكرياً، مثلما يهدفون باتجاه الروس، مع احتمال بسيط لوجود هذا الاستهداف غير المباشر للصين، ولكن بالنسبة إلى الأميركيين، إن الهدف المرتبط بالصين من خلق التوتر في جنوب القوقاز اقتصادي في الدرجة الأولى، إذ تُعتبر المنطقة الرابطة بين آسيا الوسطى وبحر قزوين والبحر الأسود وإيران على الخليج وتركيا على المتوسط، نقطة ارتكاز التجارة العالمية حالياً، ونواة عقدة طرق مشروع “الحزام والطريق” الصيني نحو شمال العالم وشمال غربه.
وعليه، تكون واشنطن، من خلال عرقلة الحركة التجارية والأمنية في تلك المنطقة، أصابت مقتلاً من هذا المشروع الصيني، والذي لو اكتمل وسلك، فستكون تأثيراته غير بسيطة على مستوى الاقتصاد الغربي وتماسكه بشكل عام.
من هنا تأتي أهمية استمرار الأزمة في منطقة جنوب القوقاز، وامتداداً إلى الحدود بين إيران وتركيا وأذربيجان. وحيث يظهر بوضوح الدور المؤثر لتركيا في تأزيم الوضع، وحيث لا يمكن إغفال العامل الإسرائيلي في المساهمة بإبقاء التوتر، تبقى واشنطن المخطط الأساسي والساعي الأبرز والمستفيد الأول من خلق بؤرة توتر أمنية وعسكرية في تلك المنطقة الحساسة من العالم.
شارل أبي نادر – الميادين نت