لطالما كان الخليج العربي حدودًا جيوستراتيجية بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب العالميين. فهو يقع على مفترق طرق إمدادات الطاقة الحيوية والتجارة البحرية والمواجهة الأيديولوجية. منذ اندلاع احتجاجات الربيع العربي عام 2011، تطور الخليج ليصبح محطّ أنظار على المستوى العالمي.
وتشير التطورات في الأشهر الأخيرة إلى تغيرات في المشهد الأمني. فالهجمات على قطر التي شنتها إيران أولاً في يونيو/حزيران، ثم إسرائيل هذا الشهر تُشير إلى تحول جذري في البيئة الأمنية في المنطقة. لقد هزت هذه الهجمات أسس الافتراضات الاستراتيجية التي بنت عليها دول الخليج العربية مبادئها الأمنية لنصف قرن. وهذا بدوره يستدعي إعادة النظر في وقت عصيب تمر به المنطقة ككل بما في ذلك اختلاف وجهات النظر تجاه إيران وإسرائيل.
افتراضات أساسية
لعقود، كان الافتراض الاستراتيجي الجوهري في الخليج هو أن الولايات المتحدة هي الضامن النهائي. وقد اعتُبرت واشنطن عاصمة لا غنى عنها لأمن الخليج كما اعتُبر الوجود العسكري الأميركي، وخاصة منذ حرب الخليج 1990-1991، الرادع النهائي ضد العدوان الخارجي والسند لبقاء الأنظمة.
وبناءً على ما تقدّم، عُدّت استضافة القواعد الأميركية، وشراء المعدات الأميركية ومواءمة السياسة الخارجية مع المصالح الأميركية أمورًا كافية لضمان الحماية. إلا أن الضربات الإيرانية والإسرائيلية على الأراضي القطرية تُثير الآن تساؤلات حول هذه التصورات. ففي شهري يونيو/حزيران وسبتمبر/أيلول، لم تردع الولايات المتحدة أي عمل عدائي ضد أقرب شريك أمني لها في الخليج العربي، والذي يُعدّ حليفًا رئيسًا من خارج حلف الناتو. وقد فُسِّر الصمت والتقاعس على أنهما تواطؤ وليس مجرد تقصير.
الافتراض الثاني لدول الخليج العربية هو أنه من خلال ترسيخ مكانتها بعمق في الهياكل الغربية، وخاصة الأميركية منها، يمكنها الحفاظ على أهميتها وتحوطها من التبعية الأمنية. كانت أسواق النفط والغاز في يوم من الأيام الأداة الرئيسة لهذا التشابك، ولكن منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عززت المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة مكانتها بشكل متزايد كوكلاء لإبراز القوة الأميركية.
ومن مكافحة الإرهاب إلى الدبلوماسية الإقليمية، تحول الخليج من كونه مستهلكًا صافيًا للأمن الأميركي إلى مساهم صافٍ في القوة الأميركية. ومثلت اتفاقيات إبراهيم لعام 2020، التي بموجبها كانت البحرين والإمارات العربية المتحدة أول دولتين من بين عدة دول عربية تُقيم علاقات رسمية مع إسرائيل، مستوى آخر من هذا التشابك. وقد نُظر إلى التطبيع مع إسرائيل في أبو ظبي والمنامة على أنه تذكرة للعودة إلى الأهمية في واشنطن. ويكشف هجوم الدوحة عن قيود هذا المنطق فالتشابك لم يضمن الأمن، ولم يضمن ضبط النفس الأميركي تجاه إسرائيل.
تحوّل في تصورات التهديد
على مدى العقد الماضي، ارتكز التفكير الأمني لدول الخليج العربية على افتراض أنه رغم أن إسرائيل شكلت تهديدًا تاريخيًا، إلا أنه يمكن التودد إليها سرًا وبهدوء لضمان احتواء عدائها. في غضون ذلك، ظلت إيران الخصم الرئيس، حيث يُمثل اندماجها في منظومة الدفاع التي تقودها الولايات المتحدة الحصن الرئيس ضد طهران. يبدو الآن أن هذا التوازن قد تحوّل.
وبعد أن كانت تُعدّ شريكًا محتملًا تحت الإشراف الأميركي، تبرز إسرائيل كطرف حرّ قادر على نشر قوته في الخليج من دون عقاب. ولا يزال يُنظر إلى إيران على أنها تهديد، ولكنه على الأقل تهديدٌ كبح الغرب أفعاله تاريخيًا. في غضون ذلك، يبدو أن إسرائيل تتمتع بحصانة استراتيجية، غير مقيدة حتى من حليفها الرئيس.
ومن المهم أن يُفترض، بالتوازي مع ذلك، أن التراجع الأميركي مؤقت. فقد كانت النخب الخليجية العربية تأمل أن يؤدي تغيير الإدارة أو إعادة التقييم الاستراتيجي إلى استعادة دور أميركا كضامن للأمن. لكن هذا الاعتقاد قد انهار. ويرى الخليج اليوم أن فك الارتباط الأميركي أمرٌ دائم.
واشنطن القائمة على تبادل المصالح والمدفوعة بالمصالح المتغيرة بدلًا من التحالفات المتينة لا تقدم أي ضمانات. ولعل ضعف دونالد ترامب الواضح في مواجهة المغامرات الإسرائيلية خير مثال على ذلك: فقد فشل الرئيس الأميركي في حماية أهم وسيط لأميركا في المنطقة، حتى مع تعهد دول الخليج العربية بضخ استثمارات تقارب 3.6 تريليون دولار أميركي في الاقتصاد الأميركي. وفي واقع الأمر، اليوم، يدعم الخليج القوة الأميركية، بينما تفشل واشنطن في دعم أمن الخليج.
صعود استقلالية الخليج
ليست الهجمات الإيرانية والإسرائيلية على الأراضي القطرية هذا العام حوادث معزولة، بل لحظات فاصلة. فهي تُضاف إلى صدمة هجوم بقيق عام 2019؛ فرغم تبني حركة أنصار الله اليمنية لتلك العملية، إلا أنها اعتُبرت بمثابة ضربة إيرانية لقلب البنية التحتية النفطية السعودية، ولم تُبدِ الولايات المتحدة سوى ردّ صامت. شكل ذلك صحوة قاسية للمملكة.
وفي يونيو/حزيران من هذا العام، مرّت قطر بتجربة مماثلة عندما فشلت واشنطن في ردع إيران. وفي سبتمبر/أيلول، فشلت إدارة ترامب أيضًا في ردع إسرائيل. بالنسبة لدول الخليج العربية، تُمثّل هذه الديناميات تأكيدًا آخر على أن الولايات المتحدة لم تعد تُقدّم ضمانات أمنية موثوقة. والأسوأ من ذلك، أن عواصم الخليج تعتقد الآن أن صمت واشنطن يُؤيّد فعليًا استراتيجية إسرائيل الكبرى الجديدة: تجاوز “جزّ العشب” في غزة إلى حرث المنطقة بأكملها بما في ذلك الدول العربية الصديقة سعيًا وراء مصالحها الأمنية الأنانية قصيرة الأجل.
من منظور خليجي، أصبحت إسرائيل دولة منبوذة أخرى أكثر خطورة من إيران لأنها تعمل بغطاء غربي. فطهران خاضعة للعقوبات والقيود والمراقبة؛ أما تل أبيب، فهي غير مقيدة ومُمَكَّنة. وهكذا، يتأصل الشعور بالخيانة في أعماقها. وهكذا فإن دول الخليج العربية، التي كانت ترى نفسها في السابق مساهمًا صافيًا في القوة الأميركية، تستنتج الآن أن الولايات المتحدة مُتطفلة، تستفيد من أموالها ونشاطها الدبلوماسي من دون أن تُقدم لها سوى القليل في المقابل.
هذه التطورات تُجبر دول الخليج، وخاصة قطر، على إعادة النظر في استراتيجياتها الكبرى. لعقود، اتبعت قطر مبدأ الحياد الاستباقي. فقد استضافت قواعد أميركية مع الحفاظ على الحوار مع إيران؛ وتوسطت بين إسرائيل وحماس، وفي الوقت نفسه تواصلت مع واشنطن. وقد خضعت هذه الاستراتيجية لاختبار قاسٍ. الدرس الآن هو أن الحياد وحده لا يضمن الحماية.
لذلك، يجب على دول الخليج العربية التحرك نحو استقلالية استراتيجية أكبر. وهذا يشمل تطوير قدرات ردع محلية بما في ذلك الدفاع الصاروخي وخيارات الضربات الانتقامية حتى لا يكون العدوان بلا ثمن. علاوة على ذلك، ثمة حاجة إلى تعزيز التعاون الأمني بين دول الخليج وإحياء مجلس التعاون الخليجي ليس كمنبر للحديث بل كترتيب دفاعي جماعي حقيقي. بالإضافة إلى ذلك، ثمة حاجة لتنويع الشراكات الخارجية، وإشراك أوروبا وتركيا، وحتى الهند، لضمان ألا يُخلّف انسحاب الولايات المتحدة فراغًا. علاوة على ذلك، ينبغي تأطير الحياد بمصطلحات متعددة الأطراف، بحيث تُؤمّن المؤسسات الدولية ومجموعة أكثر تنوعًا من أصحاب المصلحة العالميين الوساطة الخليجية، بدلًا من الاكتفاء بالنوايا الحسنة الأميركية فحسب.
نحو قطب ثالث للاستقرار
لا يزال دور قطر كوسيط محوريًا، ولكن يجب الآن دمجه في هيكل أمني أوسع. يجب أن يكون هذا الإطار الجديد أكثر مرونة واستقلالية استراتيجية من الرواية المتداولة حول تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي (MESA)، الذي روّج له ترامب بفتور في ولايته الرئاسية الأولى (2017-2021).
فالخليج يجد نفسه اليوم محصورًا بين إيران وإسرائيل كقوتين رجعيتين. وقد أظهرت كل من طهران وتل أبيب استعدادهما ورغبتهما في ضرب دول الخليج. لم تعد الولايات المتحدة درعًا يُعتمد عليه. لذا، فإن المهمة المقبلة هي بناء هيكل أمني بقيادة خليجية يُشكّل قطبًا ثالثًا للاستقرار. يجب أن يرتكز هذا الترتيب على اعتماد دول الخليج على نفسها، ودفاعها الجماعي، وشراكاتها الاستراتيجية التي تتجاوز واشنطن بكثير. حينها فقط، تستطيع دول الخليج العربية حماية سيادتها، وصون دورها كمركز عالمي للطاقة، والحفاظ على مكانتها كمفترق طرق حيوي بين الشرق والغرب.
أندرياس كريغ – أمواج ميديا