يعمد الإسرائيلي إلى المناورة بقرار الحرب البرية سواء من باب التراجع أو المماطلة أو التأجيل لصالح التصعيد في استخدام القوة العسكرية الجوية. الاستراتيجية التي تؤمن له الكلفة المنخفضة جدًا والنجاعة المرتفعة بينما يلحق أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف المدنيين في غزة ويزيد الضغط على القيادة السياسية والعسكرية لحماس، وكذلك في محور المقاومة. أمام نتائج الحرب البرية الكارثية التي يُرجّح أن تلحق بالعدو الإسرائيلي بشهادة الخبراء الدوليين والإسرائيليين، تُظهر سياسة نتنياهو على مدى الأيام الأخيرة أن قرار الحرب البرية يغلب عليه قيد التجميد؛ وهو تكتيك يوفّر المزيد من التصعيد العسكري الجوي واقتراف المجازر وصولًا إلى أكبر قدر ممكن من تفريغ غزة من المدنيين وقلب كفّة ميزان الحرب لصالح الإسرائيلي.
بيد أنّ هذه الأهداف الإسرائيلية دونها الكثير من التحديات والتهديدات على الكيان تلخّصها التداعيات السلبية المحيطة بأي عملية جوية تفتقر لعنصر التدخل البري وفق القاموس العسكري. وتستعرض هذه الورقة أبرز تداعيات تأجيل العملية على الكيان، وماهية خسائره -ولو نسبيًّا- بالاقتصار على الحملة الجوية، وكيفية مساهمة تأجيل العملية بتعزيز نتائج عملية “طوفان الأقصى” الإيجابية لصالح محور المقاومة.
رأي الخبراء الدوليين والعبريين
يجمع الخبراء والمحللون العسكريون أن الحملات الجوية لا تحسم الحرب وأن أي إنجاز عسكري دون السيطرة البريّة هو خسارة. ويتفق هؤلاء على أن الحرب الجوية الإسرائيلية لن تعيد هيبة الجيش الإسرائيلي الذي تمّت إهانته في السابع من تشرين الأول 2023، وستبقى صورة الجيش الفاشل الضعيف في الوعي الإسرائيلي وتعزّز القضاء الذاتي على عقيدة التفوق العسكري الإسرائيلي مهما تعددت وسائط الدعم الأمريكية والأوروبية. بيد أن بعض الأصوات تدعو للتريّث وعدم التسرع وإعطاء مهلة أكبر لعمل القوات الجوية، كتوصيات اللواء الاحتياط، يتسحاق بريك، -الذي التقى غالانت على انفراد- خلال عدة مقابلات تلفزيونية بـ “عدم التسرّع” باعتبار أن الدخول يصب في صالح الفلسطينيين. إلا أن العامل الزمني لا يخدم حكومة نتيناهو كثيرًا. كذلك رأى دايفيد بتريوس، المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية والجنرال الذي قاد قوات التحالف في العراق وأفغانستان، بأنها ستكون “صعبة للغاية”.
من جهة أخرى، إن تأجيل العملية والتردد في الخيار والمماطلة اليومية تؤكد خوف رئيس الحكومة من اتخاذ القرار والضعف في إدارة المعركة وأن حماس لا تزال لها اليد العليا في المعركة، وفقًا لتعبير المحلل آفي يسسخاروف. ويرى المحلل عاموس هارئيل في صحيفة هآرتس في تأجيل الحرب البرية تقاعس نتنياهو عن تحمّل مسؤولياته. وعلى الرغم من دعم رئيس أمان سابقًا ومدير معهد البحوث الإقليمي حاليًّا، تامير هايمن، لتأجيل العملية لما توفره الحملة الجوية من جدوى عالية في تدمير الذراع العسكرية لحماس وخلق وضع مريح أكثر لمناورة القوات الإسرائيلية، إلا أنه نفسه يرى العملية لا بد منها لتحقيق أهداف ثلاثة: تدمير قوة حماس؛ إعادة المخطوفين؛ وعودة الثقة وكفاءة ردع الجيش الإسرائيلي. وعليه، ينعكس تأجيل العملية على هذه الأهداف سلبًا.
النقاش السياسي الجاري
يدور الجدل السياسي ما بين المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية حول المعركة البرية، ويتخبط المستوى السياسي بين احتمالات مختلفة للعملية وبأحجام متباينة. وتطفو الخلافات الداخلية بين رئيس الوزراء نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي، غالانت، الذي يؤكد على ضرورة المعركة “للقضاء على حماس” على حد تعبيره، حتى لو استغرق الهجوم 3 أشهر. ويراهن الأخير بالمعركة البرية على القوات الجوية قبل المواجهة والالتحام. ومن الواضح أن التوتر يسود بين المؤسستين على خلفية إدارة المعركة وفي الاستجابة للطلبات الأمريكية بـ “ضبط النفس”. ومن المثير للاهتمام أنّ رئيس الحكومة نتنياهو، الذي لم يصغِ يومًا لتحذيرات اللواء (في الاحتياط) يتسحاق بريك الخطيرة بشأن المستوى الرديء للجيش الإسرائيلي، وجد فجأة الوقت بل ومرتين- لاستشارته. والأمر ليس اعتباطًا، ويرجح أنّ هذا مرتبط بموقف بريك الذي يعارض الدخول البري ومطالبته العلنية باستقالة ضباط رفيعين في الحال. الأمر الذي ينذر باشتداد الأزمة السياسية العسكرية.
فرض الفشل الإسرائيلي في عملية “الطوفان” التدخل الأمريكي المباشر في إدارة المواجهة عملياتيًّا وسياسيًّا، لكنه يتحرك وفق مصالحه لا مصلحة الكيان، فيتحكم بالقرار السياسي الإسرائيلي ويدفعه بعيدًا عن المعركة البرية بغية الحفاظ على مصالحه في منطقة غرب آسيا. سعى الرئيس بايدن في زياراته وكذلك وزير الدفاع الأمريكي على تأجيل العملية البرية وفق الرواية الأمريكية والإسرائيلية من باب النصح وأخذ الدروس من تجربة الدخول الأمريكي في أفغانستان والعراق، لكن الواقع أمر مغاير.
يدرك الأمريكي أن المعركة البرية ترفع من احتمال تدخل المحور وإلحاق الضرر بنفوذه ورفع التهديد على قواعده العسكرية المنتشرة، الأمر الذي قد ينجح المحور من خلاله في استدراج الأمريكي إلى معركة يتجنبها ولا يريدها لمحددات عدة، في مقدمها المنافسة مع الصين، وأسعار النفط، والممرات المائية، وتداعيات الحرب الأوكرانية. وكما لم تسمح واشنطن للكيان باستدراجها للقيام بعمل عسكري ضد إيران طوال الفترة الماضية، بل على العكس سعت إلى الحفاظ على مصالحها وإعادة فتح قناة المفاوضات، كذلك اليوم الأمريكي حاليًّا غير مستعد لتحمّل أعباء حرب باهظة لا يريدها، ما يدفع به إلى تهدئة الإسرائيلي ولو على حساب هيبة الأخير وصورته المهشّمة. أضف إلى ذلك التهديدات على المصير السياسي لنتنياهو وما يتهدد بقاء الحكومة من ضغط المكونات المتطرفة فيها والداعية للقيام برد قوي، وهو ما يغامر به الأمريكي عند التوصية بالتأجيل.
النتائج الاستراتيجية لعدم الدخول البري
إن عدم دخول الحرب البرية سواء الموسّعة أو المحدودة تؤكد نتائج الفشل الإسرائيلي في السابع من تشرين الأول أمام عملية “طوفان الأقصى” حيث أنها تثبت التراجع الإسرائيلي والخوف من قدرات حماس وعدم القدرة على الحسم واضطرارها إلى خفض السقوف والأهداف.
ويمكن إيجاز أبرز النتائج الاستراتيجية على الكيان المؤقت لعدم الدخول البري بالنقاط التالية:
1. تهجير سكان القطاع مع الوقت باعتماد الحرب الجوية، لو نجح، سيكون سببًا لتحويل غزة إلى قاعدة قتالية تؤمن للمقاومة من جديد الإمساك بزمام المبادرة ومفاجأة القوات الإسرائيلية بالقدرات العسكرية. 2. التأجيل المتكرر للعملية البرية لن يغير موازين قوى القتال البري حتى لو استمرت العملية الجوية التي أثبتت أنها لا تمس بالبنى التحتية العسكرية للمقاومة. 3. فقدان الجيش الإسرائيلي الثقة بجهوزيته للعملية نتيجة التأجيل المتكرر والدخول في حالات إحباط وتململ وتراجع الاندفاع للانتقام. 4. تنامي الخلافات السياسية الأمنية وزيادة التزعزع البنيوي في الكيان. 5. ازدياد ضغط أهالي الأسرى مع ارتفاع احتمال موت الأسرى نتيجة القصف واحتقان الشارع واحتمال اسقاط حكومة نتنياهو مع فقدان الثقة. 6. تزايد الخلافات والنزاعات بين المستوى العسكري وبين رئيس الحكومة، ما قد يدفع إلى قيام نتنياهو إلى إقالة مسؤولين عسكريين. 7. خسارة عامل الوقت بلحاظ المناخ، بحيث إما يدخل قبل نهاية الشهر أو قد يضطر لإلغاء العملية. 8. يتيح الوقت المتوفّر من تأجيل العملية للضفة الغربية والداخل الفلسطيني هامش المناورة المناسب لاستيعاب التشديد الإسرائيلي والخناق وتجاوزهما، وتاليًّا التحرك لنصرة قطاع غزة وفرض مواجهة ثالثة (غزة، الضفة، جنوب لبنان).
الآثار السلبية لتأجيل الدخول البري
1. المزيد من القصف الجوي وزيادة مأساة الوضع الإنساني يضع الدول الغربية أمام ضغط الرأي العام الدولي والمحلي، حيث أثبتت سياسة قمع حريات التعبير وسياسة إغلاق بعض الحسابات على وسائل التواصل وكم الأفواه أنها غير مجدية في طمس صورة الإرهاب الإسرائيلي ضد أطفال ونساء وشيوخ غزة.
2. الاستنزاف لجبهة المقاومة في غزة والمضي بمخطط التهجير القسري للمدنيين يدفع إلى رفع مستوى تسخين الجبهة اللبنانية وزيادة نسبة احتمال الاشتباك وفتح الجبهة الشمالية بما تعنيه من مواجهة مكلفة على العدو.
3. الوضع الفلسطيني في الأردن والغضب الشعبي من استمرار المجازر وارتفاع وتيرتها لا يأمن معه الكيان من اقتحام الحدود وتداعيات ذلك على مسار الحرب في غزة مع اندفاع الألوف لنصرتها.
4. حتى الآن يرسل محور المقاومة رسائل التصعيد ضد الأمريكي باستهداف القواعد الأمريكية للضغط باتجاه وقف العملية، وتأجيل العملية يشكّل فرصة لا تعوّض للمحور لتنفيذ مخطط إخراج القوات الأمريكية التي تساعد الإسرائيلي في إبادة الغزاويين.
مركز غرب آسيا للدراسات