المزج العسكري: اتجاهات الجدل حول جدوى “الأسلحة الثقيلة” في الحروب

على الرغم من الاتفاق حول أسباب ومُحفزات نشوب الحروب أو الصراعات بين الدول وبعضها بعضاً أو داخل إقليم دولة ما، سواءً فيما يتعلق بالصراع على الموارد أو الحدود أو السلطة.. وغيرها، فإن ثمة اختلافاً حول الأدوات والتكتيكات التي يتم توظيفها في تلك الحروب والصراعات. ويعود هذا التباين بصورة كبيرة إلى التطور في المفاهيم والأدوات والمعدات العسكرية، والذي ارتبط بالثورة التكنولوجية والعسكرية التي قادت الاستراتيجيين والعسكريين إلى التفكير في حروب المستقبل وأشكالها وحدود التغيير الذي طرأ عليها، وما إذا كانت الأسلحة الثقيلة لا تزال تحتفظ بدورها أم أن مقتضيات العصر قد تفرض عليها التراجع؟

وتجدر الإشارة إلى أن الأسلحة الثقيلة يُقصد بها أي أسلحة كبيرة وثقيلة للغاية، بحيث يصعب على المشاة حملها، مثل الدبابات والمدافع والمروحيات والطائرات المقاتلة والغواصات والسفن الحربية، وتُستخدم تلك الأدوات في القتال المباشر والتي تدمج المتطلبات العسكرية المختلفة (قوة النيران والحركة، وغيرها) في نظام واحد.

وفي هذا الإطار، تصاعد الحديث مؤخراً عن دور الأسلحة الثقيلة في حسم الحروب والصراعات الجارية في مناطق مختلفة من العالم. ففي الحرب الروسية الأوكرانية، كان حصول كييف على الأسلحة الثقيلة، خاصةً دبابات القتال الرئيسية، ضمن قائمة أولويات الجيش الأوكراني لمواجهة القوات الروسية. وعليه، ضغطت كييف على الحلفاء الغربيين للحصول عليها، وبالرغم من استلامها لأعداد كبيرة من المدفعية والمركبات القتالية، فإن الحصول على دبابات القتال الرئيسية ظل محل جدل لأوقات طويلة، في ظل تحفظ بعض القوى الدولية، قبل أن تسمح ألمانيا في يناير 2023 لحلفائها بإرسال دبابات من طراز “ليوبارد” لأوكرانيا. ومنذ ذلك الحين، بدأت تتدفق الدبابات إلى مسرح العمليات بصورة ملحوظة، بجانب موافقة المملكة المتحدة على تزويد أوكرانيا بدبابات من طراز “تشالنجر2″، كما تعهدت الولايات المتحدة بإرسال 31 دبابة من طراز “أم 1 أبرامز”، وتشير التقارير إلى استعداد أوكرانيا لاستلام 10 دبابات من هذا الطراز في المدى المنظور.

وفي سياق ذي صلة، استمرت الاشتباكات بالأسلحة الثقيلة في ساحة أخرى للصراعات؛ وهي السودان، مع سعي كل طرف للسيطرة على مقر سلاح المدرعات في جنوب الخرطوم، ما يشير إلى قناعة الأطراف المتحاربة باستمرار الأسلحة الثقيلة كمحدد للقوة العسكرية وإمكانية قدرتها على حسم الصراع.

ولكن نظراً لوجود تحديات وتعقيدات تشغيلية بشأن استخدام الأسلحة الثقيلة في ساحات الحروب والصراعات، فإنه أحياناً يتم التغلب على ذلك، وخاصة من جانب الجيوش غير النظامية، باللجوء إلى التقنيات التسليحية الحديثة على غرار الطائرات المُسيَّرة وغيرها.

وهنا يظل التساؤل الرئيسي حول دوافع الاهتمام بالأسلحة الثقيلة في الصراعات الراهنة، وما قدرتها على حسم هذه الصراعات؟ وهو ما يحاول هذا التحليل الإجابة عنه.

اتجاهان متعارضان:

أثارت الحرب الروسية الأوكرانية والصراعات الناشئة أو الممتدة في العالم ومنطقة الشرق الأوسط، تساؤلات حول جدوى الأسلحة الثقيلة ودورها في العمليات العسكرية الدائرة أو المستقبلية. وفي هذا الإطار، تشكلت الاتجاهات الاستراتيجية والعسكرية في مسارين متعارضين، وهو ما يمكن الوقوف عليه فيما يلي:

1- دور محوري للأسلحة الثقيلة: يرى أنصار هذا الاتجاه أن الأسلحة الثقيلة، وخاصةً دبابات القتال الرئيسية، ستظل من المكونات العسكرية التي لا غنى عنها لأي دولة. ويستند أصحاب هذه الرؤية إلى جملة من الاعتبارات؛ من بينها الرمزية التاريخية للدبابات ودورها في الحروب التقليدية. فمنذ الاستخدام الأول للدبابات في الحرب العالمية الأولى عام 1916، والتوسع في استخدامها في الحرب العالمية الثانية، أصبحت سلاحاً رئيسياً لدول العالم وصارت رمزاً للقوى العسكرية الطامحة في امتلاك القدرة على تحقيق الحسم الميداني أثناء الحروب أو امتلاك أدوات الردع وتعزيز القوات البرية. من ناحية أخرى، يشير تزايد معدلات الإنفاق العالمي على إنتاج دبابات القتال والأسلحة الثقيلة، إلى بقائها ضمن الأدوات الرئيسية لدى الجيوش، ولعل توجهات روسيا نحو تعزيز وتسريع وتيرة إنتاج الدبابات، ومساعي أوكرانيا للحصول عليها من الغرب تعكس قناعة الطرفين بأهمية امتلاك تلك المعدات الثقيلة ودورها المركزي في حسم الحرب الجارية.

2- دور متراجع: يرى أنصار هذا التوجه أن الأسلحة الثقيلة تراجع دورها بشكل كبير في الحروب، ولن يكون الاحتياج إليها بذات القدر كما كان في السابق. وتصاعد هذا النقاش بشدة في بريطانيا قبل اندلاع الحرب الأوكرانية، وذلك في إطار مراجعة وتقييم السياسات الدفاعية والأمنية للبلاد، والتوجه نحو إدخال تحديثات جذرية على القوات المسلحة، وخفض التكاليف. إذ اقترح قادة عسكريون فكرة التخلص من الدبابات البريطانية، على أساس أنها قد عفا عليها الزمن وتراجعت أهميتها في الحروب الحديثة، وهو ما عبّر عنه القائد السابق لقيادة القوات المشتركة البريطانية، ريتشارد بارونز، بأن “مستقبل الحرب سوف يبتعد عن استخدام دبابة ساحة المعركة للتركيز على الأفراد الذين يستخدمون معدات غير مأهولة ومستقلة يتم التحكم فيها عن بُعد”. وبالرغم من القيود التي فُرضت على هذا الطرح وقتها، خاصةً ما يتعلق بالتزامات بريطانيا تجاه حلف شمال الأطلسي “الناتو”، والتي قد تعوق تنفيذ تلك الخطة، فإن مجرد طرحه ربما يشير إلى قناعة لدى مستويات استراتيجية وعسكرية معتبرة بالتراجع النسبي لجدوى الدبابات والأسلحة الثقيلة.

متغيرات مؤثرة:

ثمة متغيرات يمكن من خلالها اختبار جدوى الأسلحة الثقيلة وإمكانية الاعتماد عليها في الحروب الحديثة من عدمه، بعضها يتعلق بالعقيدة العسكرية للدول، والآخر يرتبط بالتغيرات التي طرأت على الفكر الاستراتيجي والعسكري، فضلاً عن التحول في أنماط الحروب أو الصراعات وتكتيكاتها. وهذا ما يمكن الوقوف عليه على النحو التالي:

1- مسرح العمليات العسكرية: يرتبط حدود الاعتماد على الأسلحة الثقيلة وتوظيفها في الصراعات بمسرح العمليات وطبيعته الطبوغرافية، إذ تُعد الأسلحة الثقيلة، وخاصةً الدبابات، ملائمة للصراعات التي تجري على مساحات مسطحة كالصحاري أو السهول، على العكس من ذلك تتراجع فعالياتها وسط الجبال أو الغابات. فعلى سبيل المثال، يزداد تأثير وفعالية الدبابات في ميادين المواجهة المفتوحة، حيث تساعدها المسارح المفتوحة في تعزيز قدرتها على الحركة والمناورة، وتوفير مزيد من الحماية للقوات البرية للاشتباك مع الخصوم. وعليه، فإن اللجوء للأسلحة الثقيلة يخضع لعوامل الجغرافيا والتضاريس، وهو ما ظهر واضحاً في الحرب الأوكرانية، حيث أدى تساقط الأمطار وتزايد الثلوج في فترة الشتاء إلى تحويل ميدان المواجهة من أرضية مسطحة مستوية إلى مساحة طينية متعرجة، ما أفضى إلى إبطاء العمليات العسكرية لفترات طويلة، اضطرت خلالها الأطراف المتحاربة لتوظيف أدوات مغايرة لبعض الوقت قبل أن تصبح الأراضي ممهدة مرة أخرى لحركة المعدات الثقيلة.

2- نمط الصراع وطبيعة الفاعلين: تشير الطبيعة المتغيرة للحروب والصراعات إلى أن أنماط وطبيعة الفاعلين تؤثر في الأدوات والتكتيكات المُستخدمة فيها. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تفرض حروب المدن أو الحروب غير المتكافئة مزيداً من القيود على استخدام أو توظيف الأسلحة الثقيلة، خاصةً إذا ما كانت بين قوات نظامية وعناصر مليشياوية؛ وذلك لعدد من الاعتبارات، منها عدم وضوح خطوط الصراع، والخشية من الاستهداف العشوائي للمدنيين. إذ إن مثل هذه الصراعات لا تتم في ساحات الحروب التقليدية، وعليه يُفضل في هذه الحالة توظيف الأسلحة الخفيفة أو النوعية عن المعدات والأسلحة الثقيلة. كما أن مثل هذه الأسلحة النوعية لا تحتاج إلى مزيد من التدريب أو الدعم لاستخدامها بفاعلية، وهو ما يمكن فهمه من توجه المليشيات المسلحة في الصراعات الإقليمية، مثل الحوثيين في اليمن، لتطوير قدراتهم النوعية عبر امتلاك الطائرات المُسيَّرة “الدرونز” وتوظيفها في خدمة أغراضها العسكرية سواءً داخل الساحة اليمنية أم خارجها.

3- القدرة على تجاوز التحديات التشغيلية: تتراجع الأهمية النسبية للدبابات وغيرها من الأسلحة الثقيلة مقارنة بغيرها من التقنيات الحديثة، في حالة عدم القدرة على التعاطي مع بعض التحديات التشغيلية واللوجستية للأسلحة الثقيلة، ومن بينها، التكلفة الكبيرة التي تحتاجها هذه الأسلحة سواءً في عملية الشراء أم النشر والتشغيل ونقلها إلى ساحة الصراع، علاوة على المشاكل المرتبطة بأعمال الصيانة والإصلاحات اللازمة والتي تفرض تحدياً كبيراً، خاصةً إذ ما تعرضت لأعطال أثناء المواجهات. ويُضاف إلى ذلك، حاجة المعدات والأسلحة الثقيلة لمزيد من القوات البشرية لتشغيلها، وهو ما يصطدم بأزمة في التجنيد والصعوبات التي تواجه عدداً من جيوش العالم في استقطاب عناصر جديدة لقواتها المسلحة، ما يزيد من الأعباء على المجندين في الخدمة، ويتسبب في ضغط على القدرات التشغيلية للجيوش في حال إذا ما اندلع صراع أو حرب مسلحة.

وعليه، بدت توجهات الجيوش أكثر وضوحاً نحو إدماج تقنيات الذكاء الاصطناعي واستخدامها في مجالات الدفاع والهجوم، ما قد يفضي لأنواع من الدبابات غير المؤهلة أو الأسلحة الثقيلة التي يمكن التحكم فيها عن بُعد، على غرار الطفرة في الأنظمة الجوية والبحرية غير المأهولة، ما يحد من الحاجة لنشر القوات المسلحة في الخطوط الأمامية، الأمر الذي قد يؤدي إلى إحداث تغيرات نوعية في الحرب البرية.

4- الثورة العسكرية للطائرات المُسيَّرة: تشير التقديرات العسكرية إلى أن الطائرات من دون طيار أسهمت في الانتقال بالمفاهيم العسكرية والأنماط الحربية إلى مرحلة فارقة، حيث استطاعت الطائرات المُسيَّرة أن تُغير مسار عدد من الحروب والصراعات حول العالم، وحجزت مكانها ضمن الترسانة العسكرية المؤثرة في حروب المستقبل، بما يتجاوز الأسلحة الثقيلة التقليدية؛ نظراً لأنها توفر مزايا استراتيجية وتكتيكية لا توفرها هذه الأسلحة في ميدان الحرب، خاصةً ما يتعلق بالقيام بمهام المراقبة والاستطلاع، وإيصال الإمدادات، وتقديم الدعم للقوات البرية والاستهداف الدقيق لمواقع الخصوم دون المخاطرة بحياة أحد الجنود، مع ضمان تحقيق الأهداف العسكرية بفعالية.

ويؤكد الدور البارز الذي تقوم به المُسيَّرات في الحرب الروسية الأوكرانية، أنها باتت ضمن الخيارات الاستراتيجية لمخططي الحروب، حيث تصاعد توظيفها بصورة مؤثرة خلال الحرب من جانب الطرفين. ولعل الهجمات التي نفذتها طائرة انتحارية أوكرانية، يوم 29 أغسطس الماضي، بعدما نجحت في التوغل لأكثر من 370 كيلومتراً في العمق الروسي، وتدمير طائرتين من طائرات النقل الثقيل الروسي من طراز (76IL-)، وإصابة طائرتين أخريين؛ تعكس التحول الذي يمكن أن تحدثه المُسيَّرات في الحروب الحديثة وحجم الدمار أو الأضرار التي قد تلحقها بالأسلحة التقليدية.

من ناحية أخرى، كشفت الحرب بين أرمينيا وأذربيجان عام 2020، عن قدرة الطائرات من دون طيار في تغيير مسار هذه الحرب، حيث ساعدت حيازة أذربيجان للمسيَّرات التركية على تدمير عدد كبير من الدبابات والمركبات القتالية ووحدات المدفعية الأرمينية، وإخراجها من معادلة الاشتباك، علاوة على قدرتها في إضعاف خطوط الإمداد والخدمات اللوجستية لأرمينيا، الأمر الذي قاد في نهاية المطاف إلى نجاح أذربيجان في حسم هذه المعركة.

5- مناورة الأسلحة المشتركة: تم توظيف مختلف الأسلحة في الحرب الروسية الأوكرانية، فعلى الرغم من سيطرة سلاح المدفعية والدبابات على التفاعلات الميدانية في بداية هذه الحرب لاعتبارات تتعلق بعدم قدرة أي من الطرفين على فرض سيطرة جوية كاملة؛ فإن البيئة المتغيرة للحرب أجبرت الطرفين على توظيف مختلف الأدوات العسكرية، في المواجهات بينهما. إذ دخلت الحرب السيبرانية والتقنيات الجديدة، والأنظمة المُعززة بالذكاء الاصطناعي، والتلويح باستخدام الأسلحة النووية ضمن أدوات هذه الحرب. وهو ما يعني أن حسم حروب المستقبل سيتوقف بصورة رئيسية على استراتيجية المناورة بالأسلحة المشتركة عبر المزج بين مختلف الأدوات والأسلحة سواءً أكانت تقليدية أم حديثة؛ بهدف إرباك الخصم عبر التكامل بين مختلف الأسلحة دون الاقتصار على سلاح دون آخر، بما يحقق تأثيرات متبادلة وناجزة في الصراعات أو الحروب.

في الأخير، يصعب الجزم بالفرضيات المؤيدة لخروج الدبابات أو الأسلحة الثقيلة من معادلة الاشتباك في حروب المستقبل. فعلى الرغم من مرور 107 أعوام منذ الاستخدام الأول للدبابات في الحرب العالمية الأولى، فإنها لا تزال محركاً رئيسياً للقوات البرية للجيوش بالعالم، وسيظل الحفاظ عليها هدفاً استراتيجياً، مع التفكير في عملية تطوير وتحديث الدبابات والأسلحة الثقيلة وتزويدها بمقومات تحافظ على حضورها وتفوقها أو على أقل تقدير لا تلغي دورها في الصراعات المستقبلية كجزء من استراتيجية مناورة الأسلحة المشتركة.

مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة

اساسي