في ظل تزايد عدد الصواريخ البالستية قيد التشغيل على مستوى العالم لتصل لنحو 83 في عام 2022، مقارنة بـ 42 صاروخاً في عام 2002، بسبب قيام كل من إيران وكوريا الشمالية بتطوير أنواع متعددة من الأنظمة الصاروخية، نشر المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) تقريراً موسعاً حول الوضع الراهن لانتشار سلاح الصواريخ وتطويره باستخدام التكنولوجيا المتقدمة، وموقف الاتفاقيات الدولية المعنية بالحد من انتشار السلاح.
يأتي هذا التقرير، تحت رعاية مبادرة حوار الصواريخ “MDI” التي تعمل كمنصة دولية لتبادل المعلومات ووجهات النظر حول تقنيات الصواريخ وديناميات الأمن الدولي ذات الصِلة، ولاسيما في ظل رؤية المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بأن الحد من التسلح وعدم الانتشار النووي سيكونان تحت ضغط كبير في المستقبل المنظور. ويؤكد التقرير أنه مع استئناف المنافسة بين القوى العظمى (الصين وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية) على التسلح، ورغبة كل منها في تأمين ميزة تكنولوجية على منافسيها، فقد سعت جميعها لتقليل استعداداتها للخضوع لقيود أو تدابير الحد من التسلح.
تطور تكنولوجيا الصواريخ
يفيد التقرير بأن سلاح الصواريخ يمثل أداة مطلوبة لسلطة الدولة منذ اختراعه، وعلى الرغم من أن الصواريخ البالستية وصواريخ “كروز” التي تم تطويرها واستخدامها في الحرب العالمية الثانية فشلت غالباً في تحقيق أهداف مشغليها الأوائل، إلا أن استخدامها، كأسلحة إرهاب ضد المدنيين أظهر خطورتها، كأدوات للإكراه والردع لتصنف بعد ذلك ضمن أسلحة الدمار الشامل.
وتحولت صواريخ “كروز” عالية الدقة – بحسب التقرير- من كونها حكراً على الولايات المتحدة منذ حوالي 30 عاماً إلى جزء من مخزون حوالي 30 دولة لقدرتها على مهاجمة الأهداف الثابتة والمتحركة الموجودة في محيطها، ونجاحها في تقليل التهديد الموجه لمنصات الإطلاق أو للأفراد.
وبالرغم من تضاؤل عدد الدول المالكة للصواريخ البالستية عما كانت عليه منذ 30 عاماً، إلا أنها لجأت لتنويع الأنظمة التكنولوجية المستخدمة لديها في التسلح. ويؤكد التقرير أن المزيد من البلدان تعمل على تطوير ما يسمى بالأنظمة الحديثة لتعزيز قدراتها القتالية، مثل مركبات الانزلاق المعزز التي تفوق سرعتها سرعة الصوت (HGVs) وذخائر الهجوم المباشر.
وهناك العديد من الاتفاقيات التي تشكل الإطار التنظيمي للحد من انتشار السلاح منها؛ مدونة لاهاي لقواعد السلوك الصادرة عن المجلس الأعلى لحقوق الإنسان (HCoC)، ونظام التحكم في تكنولوجيا الصواريخ (MTCR) وقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1540. ولم تنجح أو تفشل هذه الاتفاقيات بشكل كلي، لكنها خلقت حاجزاً أمام انتشار الصواريخ البالستية والصواريخ الانسيابية المصنفة ضمن أسلحة الدمار الشامل التقليدية والمتوسطة وعالية المدى. إلا أن هذه الآليات غير كافية لوقف انتشار التقنيات ذات المستوى الأدنى والمصممة أساساً من مكونات متعددة الاستخدام.
وأشار التقرير إلى أن تركيز اتفاقيات مراقبة الأسلحة على الصواريخ البالستية وصواريخ “كروز” فقط أدى لظهور أنظمة ذات مسارات غير تقليدية مثل المركبات الثقيلة والمركبات غير المأهولة تحت الماء من قبل المزيد من الدول. كما أبرز خطورة الانتشار السريع لاستخدامات تكنولوجيا الأسلحة الموجهة ومخاطر تأثير هذه الأنظمة في النزاعات الدولية، لكونه سيتسبب في زيادة حجم التحديات الموجودة مسبقاً وسيسهم بصورة أكبر في انتشارها.
ويستعرض التقرير أهمية تلك الصواريخ لدول العالم، حيث يمكن تجهيزها بحمولات نووية أو تقليدية لتوصيلها، وأن مثل تلك القدرات قد تسهم في مخاطر تصعيد الصراع الدولي، لأن الغموض الذي يكتنف حمولة الصاروخ قد يؤدي لافتراض الدولة المستهدفة السيناريو الأسوأ بشكل مسبق وبالتالي سيؤدي لتصعيد ردود الفعل على مستوى التسلح النووي.
وبالإشارة لواقعة استخدام الحوثيين لصاروخ “351/ قدس”، وتصدير إيران لصواريخ من نوع “شاهد” إلى روسيا، فقد انتقد التقرير خطورة ما يحدث لما يمثله من مسار إضافي لانتشار الأسلحة دولياً، وهو ما لا ينبغي تجاهله، موضحاً أنه ربما تمثل هذه الأنواع من أنظمة التسلح جانباً واحداً من الحرب المستقبلية، ولاسيما في النزاعات بين الدول الأقل تقدماً من الناحية التكنولوجية، لكن انتشار هذه الأنظمة من دولة أقل تقدماً – إيران – إلى دولة متطورة تقنياً – روسيا – لم يكن متوقعاً ولم تتم معالجته بعد من قبل الأطر التنظيمية المعنية بالحد من انتشار الأسلحة وتصديرها.
موقف القوى العظمى
أكد التقرير أنه بالرغم من أهمية وجود تفاهم عسكري وتقني مشترك بين القوى العظمى لتحقيق الاستقرار الدولي، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لإرساء أساس قوي ومتين للحد فعلياً من انتشار السلاح. كما أفاد بأن الصين وروسيا والولايات المتحدة لديها توافق مشترك بشأن متطلباتها العسكرية والتقنية لتحقيق الاستقرار الاستراتيجي، مما يمهد الطريق أمام تطبيق مجموعة متنوعة من اتفاقيات مراقبة التسلح بشكل نظري، إلا أنه عاد لينفي إمكانية ذلك في ظل الاشتراطات السابقة التي حفزت من قبل الاتفاقيات المسبقة التي كانت معنية بالحد من السلاح.
ووفقاً للتقرير، فحتى تنجح الدول في تحقيق مستهدفاتها للحد من السلاح لابد وأن تضع بعض القيود البناءة داخل مؤسساتها، ومنها؛
1- وضع اشتراطات سياسية أو اقتصادية على موارد الدولة المخصصة للسلاح للتحكم في سباق التسلح مع المنافسين.
2- أن يحدث تطور ملحوظ في الإدارة الدبلوماسية للنزاعات الجيوسياسية، وذلك فيما يخص العلاقات الدولية، والتي تدفع سباق التسلح بين القوى العظمى الثلاث.
من جانب آخر، يؤكد التقرير أن أفق الحوار بين الولايات المتحدة والصين بشأن الاستقرار الاستراتيجي كان قاتماً لأكثر من عقد من الزمن، وأنه يتحسن بشكل بطيء. مشيراً إلى سعي واشنطن لإشراك بكين في هذه القضية بعد إدراكها لخطورة التحول في الوضع النووي للصين وهو ما بدا جلياً خلال الاجتماع الافتراضي الذي عُقد في نوفمبر 2021 بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ونظيره الصيني شي جين بينغ لمناقشة موقفهما من الأسلحة النووية.
وأكد التقرير ضرورة إقامة حوار أمريكي صيني مفتوح لدراسة القضايا النووية والاستقرار الاستراتيجي خاصة أن كلاً منهما يدرك أن الصراع بينهما أصبح أكثر خطورة مما كان عليه في أي وقت مضى في حقبة ما بعد الحرب الباردة.
السياسة النووية الأمريكية
تناول التقرير السياسة النووية للولايات المتحدة، فتاريخياً زاد الإنفاق الأمريكي على الأسلحة النووية، بالرغم من استقرار الأوضاع. حيث تملك واشنطن “ثالوثاً” من مركبات الإطلاق النووي، يضم أنظمة صواريخ تطلق من الأرض والجو والبحر، وقد تم تصميم هذا الثالوث للعمل معاً لضمان فاعلية الضربة الثانية. كما أبرز التقرير برامج تحديث الصواريخ التي تحافظ لواشنطن على وضع نووي يهدف في المقام الأول إلى ردع روسيا، مع اعتبار الصين وكوريا الشمالية وإيران مخاوف ثانوية.
إلا أن التقرير أبرز أيضاً أنه في ظل التحسينات النوعية وسباق التسلح بالتقنيات الحديثة للصواريخ، وتوسع الصين في ترسانتها النووية، بالإضافة للصراع الروسي الأوكراني فقد يؤدي ذلك إلى تحول الموقف الأمريكي الراسخ تاريخياً. واستند التقرير لتقديرات المحللين الذين أكدوا أن الولايات المتحدة قد خصصت رأسين حربيين نوويين هجوميين لكل هدف لتدميره داخل الصين وكوريا الشمالية وروسيا، وأشاروا إلى إمكانية زيادة هذا العدد مع الصين التي يبدو أنها توسع من حجم ترسانتها النووية.
لذلك، جادل بعض المحللين بأنه لكي تحافظ واشنطن على استراتيجيتها للقوة المضادة، قد تحتاج لزيادة حجم ترسانتها النووية كمياً لمواكبة التطورات الكمية للترسانات النووية للصين وكوريا الشمالية. بينما يؤكد آخرون أنه لا يزال من الممكن تخفيضها بشكل أكبر. تأتي اختلافات وجهات النظر تلك بناءً على أن تطوير أجهزة استشعار فضائية أكثر تقدماً يمكن أن يوفر لصناع القرار الأمريكيين معلومات استهداف أكثر دقة، ويلغي حاجة الولايات المتحدة لتعيين سلاحين نوويين لكل هدف أو توسيع حجم ترساناتها النووية.
ويؤكد التقرير أن الولايات المتحدة تتبنى حالياً استراتيجية استهداف القوات المضادة؛ مما يعني أنه في حالة نشوب حرب نووية، ستستخدم ترسانتها النووية لمهاجمة القواعد العسكرية للعدو ومراكز القيادة لديه. وهذه استراتيجية حافظت عليها الولايات المتحدة منذ الحرب الباردة. على النقيض من ذلك، فإن بعض الدول، مثل الصين، تمارس استراتيجية استهداف القيمة المضادة؛ مما يعني أنه في حالة نشوب حرب نووية، سيتم استخدام الترسانة النووية المعنية لاستهداف المراكز السكانية لإلحاق أذى أكبر بالخصم.
مع ذلك، يُعتقد أن استراتيجية الاستهداف الروسية هي مزيج من الاثنين، أي استهداف البنية التحتية العسكرية، لكن في حالة الطوارئ ستلجأ لضرب البنية التحتية المدنية ومع نهاية الحرب سيكون الاستهداف مبنياً على استراتيجية القيمة المضادة مثل الصين.
ووفقاً للتقرير فإن سبب تفضيل الولايات المتحدة لاستخدام استراتيجية القوة المضادة في المقام الأول يعود لأسباب قانونية وأخلاقية، إذ تسمح لها بالبقاء ممتثلة لقانون النزاع المسلح، الذي يتطلب من البلدان في حالة حرب التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية، كما تسمح أيضاً بتنفيذ العقيدة النووية المتمثلة في استهداف الترسانة النووية للعدو في الضربة الأولى لمنع إطلاقها وتجنب التدمير المتبادل.
تناول التقرير أيضاً المخاوف الأمريكية تجاه العلاقة الوثيقة والمتزايدة بين روسيا والصين ومن المرجح أيضاً أن تتأثر سياسة واشنطن بمجريات تطور هذه العلاقة. خاصة في ظل اتخاذ المنافسة الثنائية التاريخية بين روسيا والولايات المتحدة تكويناً جديداً، وذكر المسؤولون الأمريكيون أنه قد يتعين على الولايات المتحدة مواجهة منافسين نظيرين ذوي قدرة نووية في وقت واحد.
الإمكانات الروسية النووية
يستعرض التقرير إمكانات روسيا النووية، حيث تمتلك مجموعة واسعة ومتنوعة من القدرات الصاروخية لردع خصومها وتنفيذ خططها القتالية. مشيراً إلى أن ترسانة موسكو تتشكل من الصواريخ البالستية العابرة للقارات (ICBMs)، والصواريخ البالستية التي تُطلق من الغواصات (SLBMs) وصواريخ “كروز” الجوية (ALCMs). ويؤكد التقرير أن جوهر نظام الردع الروسي يتمثل في قوته النووية الاستراتيجية، حيث تنظر القيادة الروسية للأسلحة النووية على أنها عنصر أساسي لضمان دورها في المشهد العالمي سواءً على المستوى السياسي أو التكنولوجي.
وتناول التقرير تداعيات الصراع الروسي الأوكراني في فبراير 2022، والذي أسهم بشكلٍ كبير في إعادة أوروبا النظر في أمنها، وتنامي البيئة العدائية بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، في ظل العقوبات الغربية على موسكو، والتي يحتمل أن تطول. وأبرز التقرير مخاوف المراقبين الغربيين تجاه احتمالية استخدام روسيا لقوتها النووية كجزء من إنهاء حربها في أوكرانيا، ولاسيما إذا بدا أن الصراع سينتهي بشكل سيئ بالنسبة لموسكو، وأيضاً لإحباط أي تفكير في تدخل عسكري غربي.
ومع تدفق أسلحة غربية إلى أوكرانيا، يؤكد التقرير أن الصراع في هذا البلد تحول إلى حرب بالوكالة تهدف في مضمونها إلى ضمان الهيمنة الاستراتيجية للولايات المتحدة، وهو ما ينذر بالتالي بإمكانية استخدام روسيا قوتها النووية في سبيل تحقيق أهدافها السياسية.
مفاوضات دولية
يبرز التقرير المحاولات الدولية لتفعيل حوار الاستقرار الاستراتيجي Strategic Stability Dialogue “SSD”، عبر البدء المحتمل للمفاوضات بين الولايات المتحدة وروسيا، للحد من الأسلحة النووية في المستقبل، وذلك بالإشارة لاتفاقية “ستارت الجديدة”ـ مع ذلك، أتضح أن كلاً من موسكو وواشنطن لديهما أولويات مختلفة بعيدة عن أهداف الاستقرار الاستراتيجي والحد من انتشار السلاح.
يؤكد التقرير صعوبة تجاوز العقبات التي تحول دون استكمال حوار الاستقرار الاستراتيجي، خاصة أن هذا الحوار يمثل نقطة انطلاق لاستكمال اتفاقية “ستارت الجديدة”، والتخوف من انتهاء المعاهدة في عام 2026 من دون وجود اتفاق بديل، وبالتالي ستظل الموضوعات المهمة على جدول أعمال منتدى “SSD” مثل تأثير التقنيات الناشئة في الاستقرار الاستراتيجي معلقة ومن دون معالجة.
كانت روسيا قد علقت اتفاقية “ستارت الجديدة” في شهر فبراير الماضي في ظل توتر العلاقات مع الولايات المتحدة على خلفية حرب أوكرانيا، وهو ما عده بعض المحللين رسالة للردع النووي.
اختتم التقرير عرضه بتأكيد أنه حال كانت هناك رغبة في نجاح أي مناقشات للحد من التسلح، ربما يتعين على الولايات المتحدة التغلب على ما يعتقده حلفاؤها الأوروبيون من أنها تسعى وراء أي اتفاقيات ثنائية لها مصلحة وطنية أمريكية أكبر من التعامل مع العدوان الروسي في أوكرانيا.
المصدر
The International Institute for Strategic Studies, Missile Technology: Accelerating Challenges, December 2022.
سالي يوسف – المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة