غلب على كتاباته موضوع الشهداء والجهاد. وإذا قسمنا انتاجه المكتوب بما فيه نصوص الأفلام والوثائقية فسيكون 20 % تقريباً للإمام الخميني ونقْد الغرب ورواية عاشوراء والباقي في الجهاد والجبهة. فهذا طبيعي كوْن أن مسيرته النضالية بدأت قبل الحرب بفترة أشهر ثم التحق بالجبهة لمدة 8 سنوات استشهد بعدها بأربع سنوات تقريباً كان ما زال يوثّق للجبهة ومآثرها ورجالاتها. إنه السيد مرتضى آويني
الروح هي التي تقاتل
لم ينتج آويني فيلماً موضوعه شخص محدّد بل “قيم” رآها في الجبهة وذكرها في أفلامه كأمثلة وتطبيق. لقد عاش في مسيرته الجديدة بعد الثورة حوالي 12 عاماً كانت كلها في صناعة الوثائقيات بشكل رئيسي إضافة إلى كتابة المقالات وبعض المحاضرات والتدريب.
كانت الجبهة تجوبها الكاميرات فهي شيء طبيعي في فِرق الاعلام التابعة للألوية والفِرق وكذلك مراسلي القنوات الوطنية وكذلك الصحافة الحكومية والحرّة.
بين كل هذا ظهر فريق من عدة أشخاص وبدأ ينتج للجبهة أعماله الخاصة. حمل اسم “روايت فتح” واسمها بالعربي “رواية الفتح”. كانوا ينتجون أعمالهم بدون أسماء ويوضع عليها اسم المجموعة فقط يعرضها التلفزيون الرسمي كما هي بدون تيتراج. نقل آويني المشهد الجهادي ببساطة من الأرض للسماء وكما يقول عنه الامام الخامنئي: “…كان يقول أن شبابنا يعرفون طرق السماء أكثر من طرق الارض، كان يقول هذا الكلام وكأنه قد ذهب بنفسه ورأى طرق السّماء وعرف أنهم يعرفونها أكثر”.
ابتعد عن الخبر وكذلك عن المعلومات فكانت جزءاً يتطرق إليه بقدر ما يستحق ويلزم فقط. ربَط الأحداث بكل التاريخ ماضياً ومستقبلاً، وصَل الأرض بالسماء، وعالم المادة بعالم الروح. كل أفلام آويني بكل أجزائها: الموضوع، النص، التصوير،… تُثبت أنّ “الرّوح هي التي تقاتل”، وأن الغيب حاضر. وقاعدة أن “الله قد رمى” تراها جلية بدون عناء. فهذا الرجل قد “جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه”.
سنديان
نقترب الآن من الذكرى 25 لشهادته خاتمة أعماله. أكثر من 35 سنة وأعماله لا تتوقف عن العرض وأقواله،. عددها بالمئات، لم تغب يوماً عن الشاشة والمطبوعات والاحتفالات وتشييع الشهداء والمراسلات واليافطات، والآن ملأت الاعلام الاجتماعي. هذه المنتجات التي لا تتوقف عن الاستخدام اليومي لأكثر من ثلاث عقود أشبه بأشجار سنديان معمّرة خضراء طوال العام. تقسو مع الوقت وتصلب ولا تَبلى خضرتها. وتحذف من التداول الدائم آلاف الدقائق والنصوص والأعمال الأخرى.
قصة الفتح
التزم بيته شهراً وخرج معه أوراقه في 9 فصول وصفحة. فلم يستطع أن يروي بقلمه شهادة سيد الشهداء. هذا الكتاب المنشور في ايران باسمه الفارسي “فتح خون” أي “فتح الدم” أو “انتصار الدم”. يُطبع كل عام ويُقرأ كل عام وفي عاشوراء الأخيرة قرأه الرادود محمود كريمي في كل ليلة فصل كجزء من برنامج العشرة الأولى من محرم للهيئة. يحمل هذا الكتاب وجهة نظر في عاشوراء كانت جيدة جداً حين كتبها. ومضى وقت حتى أصبحت هذه اللغة هي حديث بعض المنابر خاصة أنها سياسية بامتياز.
قافلة العشق في رحلة التاريخ، وهذا هو تفسير قول: كل يوم عاشوراء، كل أرض كربلاء. وهذا كلام ترتعد له فرائص الشيطان، ويجعل أصحاب الحق في فيضٍ دائمٍ من الرحمة والأمل.
وأنت يا من في عام واحد وستين للهجرة كنتَ لا تزال مخبّأً في ذخائر التقدير، والآن في زمن الجاهلية الثانية، وعصر توبة البشرية، قد وضعت قدمًا على كوكب الأرض، لا تيأس، فأنت أيضًا عاشورائيٌّ وكربلاء المشتاقة لدمك وتنتظر حتى تفكّ سلاسل التراب من قدمي إرادتك وتهجر النفس وأهواءها، وتلتحق بكهف لا مكان ولا زمان، كهف الولاية الحصين، وتترفّع عن الزمان والمكان فتصل إلى قافلة سنة واحد وستين للهجرة، وتستشهد في ركب الإمام (عليه السلام).
.
أيها الأصحاب! أسرِعوا فالقافلة في الطريق. يقولون إنّ القافلة لا تستقبل المذنِبين؟ نعم، ليس للمذنِبين إلى القافلة من طريق، ولكنها تستقبل النادِمين.
أسرار الصلاة
جاءه مجموعة من الشبّان ليتعلّموا الإخراج، فقال لهم: “المونتاج لا يتطلب نصف نهار لتتعلموه مثلاً لكن إن لم تقرؤوا “أسرار الصلاة” للامام الخميني فلن تصبحوا مخرجين”.
لقد استطاع أن يوجِد معايير جديدة في تجربة قصيرة جداً تكاد تكون أشهر وهو القادم من العالم المقابل كما يقول: “لا تتخيّل أنّني لست على اطّلاع على حياة ذوي الأفكار المتنوّرة، لا، فأنا أتكلّم معك بعد طيّ طريق طويل بهذا المجال. لقد درستُ لسنوات في إحدى كليّات الفن. كنتُ أذهب إلى الأمسيات الشعرية، ومعارض الرسم، وأسمع الموسيقى الكلاسيكية. قضيتُ ساعات طويلة في نقاشات تافهة حول أشياء لم أكن أعرفها. عشتُ لسنوات متظاهرًا بالمعرفة. كانت لي سكسوكة وشاربٌ طويل، وكنت أحمل كتاب “الإنسان ذو البعد الواحد” لهربرت ماركوزه” دون أن أقرأه حينها، وذلك فقط كي يرى غلافه الآخرون، فيخاطبون أنفسهم: يا له من مثقّف ويا لهذا الكتاب الذي يقرؤه.”
هكذا آويني قدّم أعماله وكتاباته الثورية الخمينية منسجمة مع الثورة فغيّر جوهر النص كما يقول: “يجب علينا تغيير جوهر الفنّ الحديث وليس قالبه، من أجل تحقيق الإستقلال الثقافي. يجب أن نعود إلى أنفسنا يعني الإلتفات إلى أنفسنا. وأنا أعتقد بأن مرحلة التغرب قد انقضت ومع انتصار الثورة الإسلامية دخلنا في عصر جديد حيث تسلط وسيطرة الغرب على العالم تضمحل تدريجياً .
فأعاد تشكيل منظومة جديدة في العمل الفني والاعلامي والصحفي. استثمر آويني في أعماله قلمه وصوته وإخراجه وتصويره. كلها كانت بأسلوب آويني الجديد والمتفرد. لذا حاربه كالعادة الحسّاد والضعفاء وقاوم بأعماله كل أنواع المعارضة لكن بقي هو وسيبقى للتاريخ وذهب كل المزعجين ولم يبقَ منهم أثر سوى أذيتهم..
العمل في السر
هناكَ، في مغربِ الأرض، جهنّم الأكل والنّوم والغضب والشّهوة، وهنا، تحت هذه السّماء، هذه الجبال والصخور والسهول، موطئُ قدم أمّةٍ، أشرق نور ولايةِ آلِ محمدٍ على مرآةِ فطرَتِها بعدَ قرونٍ من التاريخ. وهذه الأمّة وجدَت الصراطَ المستقيم في شعاع النور هذا – نورِ أنوارِ الحق-. ونحو منتهاها، جنّةِ لقاء الله ومقامِ رضوانه، تمضي على خيطٍ أرفعَ من الشّعرةِ وأحدَّ من السّيف. لأجل معرفة هذه الأمّة يجب النّظرُ إلى مكانة هؤلاءَ في مجملِ خطّ التاريخ ومقارنتهم مع الأقوام الآخرين ممّن يعيشون على كوكب الأرض؛ وصدقاً، كم هي باعثة للحيرة هذه المقارنة!
من هو الشهيد؟ والحرب والموت والجهاد والولاء والجرح والاعتقال والحب والعشق والرحمة والغيب و…؟ وكذلك ما هو الابداع والفن والفوز والنجاح والتقدّم و…؟ كلها أسئلة تجد الاجابة عليها في نصوص السيد مرتضى.
عندما تقرأ آويني ثم تتبنّاه وتقبله معلّماً، ستتغير نظرتك لمجتمع المقاومة فتراها من فوق من السماء كما يراها سماحة الأمين العام: فثبت له “أنهم أشرف الناس”، وتتغير نظرتك للشهداء فتراهم ليسوا فقط أصحاب بطولة أو أفراد عبروا بنجاح بل هم نموذج خاص بكل أنواعهم وأطيافهم قادة كانوا أم جنوداً. إذ يقول عنهم الامام الخامنئي: “إني تراب نعال – جميع – الشهداء”.
هذا المعلم يفصلنا عن كل النظرة الفاسدة للقيم في الغرب المشروطة بالمادة فقط. ويثبت لنا أن الاسلام له من الجاذبية والجمال ما يضاهي كل الجمال المؤقت والمشروط. فتبقى أفلامه تُشاهَد لأكثر من ثلاثين عاماً وما زالت وأقواله حكم عالم الجهاد والثورة.
“إن العمل في السر مؤلم لعبدة الشهرة”
من منظار آويني تحتل كثير من القضايا مكانتها الصحيحة ويصحح تموضع المفاهيم.
“الجنة متوفرة لأهل العقل. إلا أن هناك سراً في العالم لا يُفشى إلا بثمن الدم.” فعاش حياته يعمل في السر وختمها بالشهادة. لكن المفارقة كلها أنه مع كل ما حمل من ثقافة وايمان وحكمة كان مجرد صانع أفلام وثائقية بسيطة عن الحرب أحد أبسط وأرخص الأعمال، حكيم وفيلسوف وكاتب بمستوى “سيد شهداء أهل القلم” كما أسماه الامام الخامنئي. بقى يمارس عمله حتى لحظة شهادته ولم يبحث عن مسؤولية ولم يقم بأي حركة تلفت الأنظار أو تفرض على الآخرين تغيير علاقتهم به.
وضع كل ما أنعم الله عليه في ما كتب وجعلها أفلاماً وكُتب ما زالت تتصدّر مثيلاتها حتى الآن.
علاء قبيسي – مؤسّس (لبّيك)