المصطلحات قماش فاخر.. يمكنه أن يلفّ المحتوى الوازن ليظهره بأبهى حلّة، ويمكنه أن يخفي خواء قبيحًا وتشوّهًا بليغًا.. ويمكنه أيضًا أن يخدعَ، أن يستحيل فخًّا يوقع النّاظر في نقيض ما رأى، أو ما ظنّ أنّه رأى..
في خضمّ المصطلحات المتداولة واختلاف مفاهيمها وجدوى استخدامها، لا شكّ تستوقفنا عبارات كثيرة.. ولعلّ في هذا السوق الحافل بالمنتجات اللفظية، تجتذب عبارة “Strong Independent Woman”، ولا سيّما باللّكنة الأميركية المارّة.. تستحضر كمًّا هائلًا من الترجمات البصرية، تِبعًا لخيال الرائي..
شاع هذا المصطلح في الآونة الأخيرة في أوساط متعدّدة.. ويُعتبر بطاقة تعريفية تتباهى بحملها النساء المنتميات إلى ما يُسمى بالمجتمع المتحرّر، وحيازتها تحوّلت إلى شرط أساسيّ لولوج هذا المجتمع، على اعتبار أنّ نساء المجتمع المحافظ لسن مؤهّلات للتوصيف الذي تحمله العبارة.. بكلام آخر، إذا سلّمنا جدلًا بإنقسام مجتمعي بين “متحرّر” و”محافظ”، يعتبر أفراد القسم الأوّل أن نساء القسم الثاني لا يمكن لهنّ أن يكنّ قويّات ومستقلات، فيما يتوجّب على المنتقلات، على سبيل الزيارة أو الإقامة الدائمة، من القسم الثاني إلى الأوّل أن يثبتن جدارة حيازة شرف التوصيف المذكور، وحتمًا التبرّؤ من كلّ ما يمتّ إلى المحافَظة بصلة.
وهكذا، تمّ بسلاسة عجيبة إسقاط توصيف “القويّة” عن نساء كثيرات لصالح النموذج المعلّب، وارتبط بمواصفات ملحقة وإلزامية كالتباهي بالشتم والسبّ العلنيّ، كالاستعراض بكلّ ما أمكن، وكالتفلّت من كلّ منظومة أخلاقية.. إلى حدّ ما، ربط هؤلاء الضعف بالكثير من الصفات المرتبطة بالأخلاق أو بالالتزام القِيمي أو الديني. وجعلوا معيار المرأة القوية هو قياس مسافة إبتعادها عن فطرتها..
بالحديث عن الفطرة، ينكر هؤلاء حقيقة أنّ القوّة فطرة تتجلى في تفاصيل كثيرة لا علاقة لها ببريق الشعارات، وأنّ المرأة، كلّ امرأة، مفطورة على قوّة التحمّل وقوّة العاطفة وقوّة التنسيق وإدارة الأولويات وغيرها من القوى التي ما ان تتخلى عنها امرأة لصالح الإنسياب داخل النموذج تتحوّل إلى كائن شديد الهشاشة يتباهى بلفظ “أنا قوية”..
وفي السياق نفسه، تمّ تعرية مفهوم الاستقلالية من معناه الأوليّ والطبيعيّ لتشكيله كقشرة رقيقة تحيط بسقوط مجتمعيّ فادح.. (وهذا ما حدث تمامًا مع مصطلح “الإستقلال” الذي تحوّل منذ فترة إلى غطاء من طالبوا الرئيس الفرنسي بانتداب لبنان!).. نسي هؤلاء أن الاستقلالية مرتبطة حصرًا بالوعي وبالانفتاح، ولا علاقة بينها وبين السكن في منزل العائلة أو في مسكن مستقل، وطبعًا لا ترتبط بالتنصّل من كلّ العلاقات العائلية بكلّ أشكالها ولا توجب أن يكون الإنسان، كلّ إنسان، متفلّت من كلّ قواعد بيئته الإجتماعية. على سبيل المثال، يعتبر مَن افترضوا أنّهم أصحاب “الحقّ الحصري” في تصنيف النساء بين مستقلّة وغير مستقلّة، أنّ المرأة التي تلجأ إلى مشورة عائلتها هي حتمًا غير مستقلة، وأنّ تلك التي تختار أن تستأذن زوجها في سفر أو في رحلة هي خاضعة مسيئة إلى معشر النساء! فيما يتجاهلون معيار مشاركتها الواعية في أمور عائلتها واختيارها الحرّ بإدارة شؤون حياتها المشتركة مع الرجل بعيدًا عن الشعارات والإستعراضات كشكل راقٍ من أشكال الإستقلالية.. هذه المستقلة بالذات يعتبرونها خطرًا حقيقيًا على النموذج الموجود في أذهانهم، والذي غلّف التّيه المجتمعي بورق برّاق سُمّي زورًا “الإستقلالية”..
من هذا المنطلق، يمكن القول أن حاملات شعار “strong independent woman”، وسواء عن عمد أو عن جهل، قمن بتبخيس المعنى الحقيقي للمرأة القوية المستقلة، لصالح نموذج هجين تابع ومقلّد وهشّ.. هذا النموذج الذي يؤسّس ببطء شديد لكلّ أشكال الإغتراب المجتمعي، وللخراب الذي يبدأ بتفكيك الأفراد عن بعضهم وتحويلهم إلى عوالم مختلفة لا تلتقي ولا تتكامل.
نعود إلى سوق المصطلحات.. دعونا نحوّل “strong independent woman” إلى سؤال، بل إلى أسئلة تطرحها المرأة على نفسها. ما هي معايير القوّة والإستقلالية؟ ما الذي أمتلكه منها، وما الذي ينقصني؟ ولتكن الإجابات خالية من شوائب التهجين والتلميع وما يريده “المجتمع المتحرّر”..
حسنًا، سأبدأ بنفسي:
strong independent woman?
أنا قويّة جدًّا، فالأمومة قوّة، والإنتماء إلى عائلتي قوّة، وإهتمامي بتوطيد المشتركات مع الآخرين قوة، وإصراري على المحاولة بعد كل فشل قوة، وتجاهلي لما يراه الآخرون من معايير واهنة للقوّة، قوّة أيضًا.
وأنا مستقلّة، ودليلي أنّي لم أخضع لأحكام مَن يُسمّون ب “المتحرّرين” حين اخترت ألّا أقدّم أيّ تنازل من أجل فرصة عمل “باهرة” مثلًا، وحين احتميت بفطرتي كي لا أتلوّث بالوهم وبالشعارات.. ينقصني الكثير نعم، لكنّي أمتلك العناصر الأوليّة لصناعة قوّتي واستقلاليتي بالشكل الذي أراه مناسبًا.
في داخل كلّ منّا لائحة لا تنتهي من الأسباب ومن النواقص، ستظهر تباعًا كلّما ابتعدنا عن التعليب الشعاراتيّ وعن المصطلحات المشوّهة..
وبالتأكيد، سيخفت تأثير هذه الشعارات حين نكفّ عن الوقوف مطوّلًا أمامها حيث تُعرَض، حين لا نحاول خياطة ثوب لأرواحنا من قماش الوهم اللّماع، وحين نبحث عن قوّتنا ومكامنها ونسعى إلى تظهيرها لأجلنا ولأجل مَن نحبّ، وإلى تسخيرها كي لا نورث بناتنا نموذجًا موحدًا قبيحًا يحوي العبودية والدونية والتفلّت والإغتراب والإضطراب تحت مسمىً لطيف هو “strong independent woman”..
نُشر في مدوّنة فُتات