نشأت أجيالنا ومنذ الطفولة على أن تناول الجزر يقيك ارتداء النظارات الطبية، ويعزز رؤيتك الليلية، وهو الأمر الذي يردده بعضنا لأطفالهم باعتباره أمراً مسلَّماً به وحقيقة علمية مثبتة، توارثها من والديه.
ولكن في الحقيقة أننا جميعاً تعرضنا لغسيل مخ غير مقصود، تقف وراءه عدة شائعات خرجت عن السيطرة، أطلقتها المخابرات البريطانية في الحرب العالمية الثانية بمساعدة “والت ديزني”، ولا يزال يرددها الجميع ليومنا هذا.
على الرغم من كون الجزر يحتوي على فيتامين A الذي يساعد في الحفاظ على البصر، لكن الفيتامين نفسه، وبحسب مختصين لا يحسِّن الرؤية ولا يساعدك على الرؤية في الظلام أو يبطئ التدهور في الرؤية لدى الأشخاص الأصحاء، بل إن الجزر في الواقع مصدر غير فعال نسبياً لفيتامين A، وذلك لأن تحويل مادة “بيتا كاروتين” في الجزر إلى فيتامين A يحتاج حوالي ما بين 12 إلى 21 جزيئاً من “بيتا كاروتين” لإنتاج جزيء واحد فقط من فيتامين A، لذا ستحتاج لتناول كميات كبيرة جداً من الجزر للحصول على الفائدة المنشودة.
من أين بدأت أسطورة “الجزر يقوي النظر”؟
في سبتمبر 1940 أثناء الحرب العالمية الثانية، أطلق “فرع الحرب الجوية” من جيش “الفيرماخت” الألماني حملة قصف جوي على لندن ومدن أخرى في جنوب إنجلترا، وكان أغلب القصف يحدث ليلاً لضمان استحالة تعقُّب القاذفات الألمانية وإسقاطها من قبل قيادة سلاح الجو الملكي البريطاني.
ما زاد الطين بلة على البريطانيين أن الحكومة البريطانية أصدرت أمراً بقطع التيار الكهربائي في أنحاء البلاد أثناء الغارات الجوية من أجل زيادة صعوبة إصابة الطائرات الألمانية لأهدافها وطلبت من المواطنين إطفاء الأضواء أثناء الغارات الألمانية.
في العادة مثل هذا القرار سيُصعِّب على البريطانيين أيضاً اكتشاف طائرات العدو في سماء الليل المظلم،
ولكن البريطانيين كان في جعبتهم سلاح سري تم اكتشافه عن طريق الصدفة قبل سنوات.
اكتشف البريطانيون أن جهاز إرسال موجات لاسلكية يمكن استخدامه لاكتشاف وتتبع طائرات العدو قبل وقت طويل من وصولها إلى هدفها.. سرعان ما أصبح الاختراع معروفاً باسم “راديو تحديد الاتجاه والمدى – Radio Direction-finding And Ranging” أو اختصاراً “RADAR” أو “الرادار”
بعد سنوات من التطوير بهدف جعل حجمه صغير نسبياً ليصبح محمولاً تمكن الطيارون البريطانيون من وضع الرادار في طائراتهم، وسمح لهم الاختراع الجديد بتحديد الطائرات الألمانية ليلاً وإسقاطها بأعداد كبيرة.
كان الطيار البريطاني جون كننغهام أول من أسقط طائرة معادية باستخدام “الرادار”، وتمكن لاحقاً من إسقاط 19 طائرة ألمانية في الليل.
في سبيل حماية سر الاختراع الجديد أصدرت المخابرات البريطانية شائعة روجت لها وزارة الإعلام، وأطلقت حملة تضليل ضخمة تعزو نجاح الطيارين مثل كننغهام والجنود الذين أسقطوا الطائرات الألمانية إلى “بصرهم المتفوّق المُكتسَب من خلال تناول كميات كبيرة من الجزر!”.
وأطلقت الصحافة البريطانية لقب “عيون القط” على جون كننغهام؛ لاعتقادهم بأنه يستطيع الرؤية في الليل مثل القطط، والسبب تناوله الكثير من الجزر.
اقتنع الجمهور البريطاني عموماً بأن تناول الجزر يساعدهم على الرؤية بشكل أفضل أثناء انقطاع التيار الكهربائي في جميع أنحاء المدينة، فأقبلوا على تناوله بكثرة، معتقدين بقدرته على مساعدتهم على التنقل في الظلام وتجنب الحوادث.
خاصة أنه في السنة الأولى من الحرب وحدها مات ما يقرب من 1130 بريطانياً في حوادث الطرق الليلية، وظهرت في كل مكان إعلانات وملصقات تحمل شعار “الجزر يحافظ على صحتك ويساعدك على الرؤية في التعتيم”.
لم يكن الألمان وحدهم هدف هذه الحملة المضللة
السبب الآخر لترويج هذه المعلومة بين أوساط الشعب البريطاني وبشكل متعمَّد من قبل الحكومة حينها هو الحصار الخانق الذي فرضته الغواصات والسفن الألمانية واستهدافها السفن التجارية التي تنقل المواد الغذائية المستوردة لبريطانيا، خاصة السكر والزبدة واللحوم، وغياب الكثير من الأيدي العاملة البريطانية بسبب ذهابهم للقتال على الجبهات.
الأمر الذي سبب أزمة وطوابير طويلة أمام المحلات التجارية، فكان الحل تشجيع المواطنين على تضمين المزيد من الخضراوات في نظامهم الغذائي، خاصة تلك التي يستطيعون زراعتها في حدائق منازلهم.
فشاركت إدارات حكومية بريطانية أخرى في الحملة مثل وزارة الزراعة ووزارة الغذاء، وروَّّجت حملات كبيرة لتضمين الجزر والبطاطا بشكل أساسي في النظام الغذائي، بحجة التغلب على مرض “العشى الليلي” وتجنب الحوادث، لكن بالحقيقة تم الترويج لها لأنها سهلة الزراعة وتنمو بسرعة.
وصفات الجزر بتشجيع حكومي
لتعويض النقص في مادة السكر شجعت الحكومة المواطنين على استخدام الجزر في صناعة الحلويات بدلاً من السكر المستورد الذي كان يعتبر شحيحاً بالإضافة إلى “نشرة طهي الحرب” على الإذاعة الحكومية التي كانت مليئة بوصفات حلوى الجزر وكعكة الجزر ومربى الجزر وفطيرة الجزر.
في أواخر عام 1941 ، عرض “والت ديزني” مساعدة الحكومة البريطانية وتصميم تمائم وشخصيات كرتونية للجزر والبطاطا، ولاقت تلك الشخصيات انتشاراً كبيراً حينها.
انتشار الدعاية المضللة من بريطانيا إلى العالم
في نفس الوقت تقريباً في الولايات المتحدة قدمت شركة “Warner Bros” شخصية “باغز باني” الشهيرة بتناول الجزر دائماً، بينما أدى “باغز” دوره في الرسوم الكرتونية الدعائية للحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة.
استلهم الأمريكيون الدعاية للجزر من التجربة البريطانية، وقد ذكرت صحيفة نيويورك تايمز في 25 يناير 1942: “إن إنجلترا تزرع الكثير من الجزر، وتعتمد عليه إلى حد كبير في منع شعبها من الاصطدام بأعمدة الإنارة والسيارات وبعضهم البعض”.
ولم تكن الصحيفة تعلم أن المعلومة غير صحيحة، ليتحول بعدها الاعتقاد بأن الجزر يملك فوائد خارقة للنظر من اعتقاد محلي بريطاني إلى اعتقاد عالمي روجت له الصحافة والرسوم المتحركة الأمريكية.
ويرجح البعض أن الألمان لم يقعوا ضحية الدعاية البريطانية حول الجزر، خاصة أن القوات الألمانية على دراية جيدة بتركيب رادار أرضي بريطاني ولن تتفاجأ بوجود رادار في الطائرات، في الواقع أنهم قد طوروا نظام الرادار الخاص بهم في نفس الوقت الذي قام فيه البريطانيون بذلك، لكن الأكيد أن البريطانيين والأمريكيين ومن ثم العالم بأسره حتى اليوم يصدق ويروج لأسطورة الجزر.
عربي بوست