في أحد صباحات حزيران/يونيو من العام 1930 وفي مدينة عكّا الفلسطينية الساحلية، أعدم البريطانيون ثلاثة شبّان من الثوار الفلسطينيين هم: محمد جمجوم، وعطا الزير، وفؤاد حجازي، لدورهم في “ثورة البراق” ضد الاستعمار البريطاني، في ما بات يعرف باسم “الثلاثاء الحمراء”.
وتقول المؤرخة رنا بركات إن تلك الإعدامات “سعت إلى زرع الخوف في قلوب الفلسطينيين العرب، وتكميم حركتهم الاحتجاجية المتعاظمة”، لكن بدلاً من أن تخضع هذه الإعدامات الفلسطينيين وتخيفهم، قدّمت أول شهداء فلسطين المخلّدين في الشعر والأغاني.
وفي رسالة يقال إن فؤاد حجازي كتبها قبيل إعدامه، وتم تداولها وطباعتها، يقول مخاطباً الناس: “أنا لست أخاً أو ابناً لكم فحسب، بل إنني ابن وأخ للأمة كلها. لا تبكوا أو تنتحبوا من بعدي… عليكم أن تفرحوا وتغنّوا… إن موتي مدعاة للاحتفال… فالأمة التي تقف في وجه بؤسها وتقاتل، أمةٌ لن تموت”.
تحولت “الثلاثاء الحمراء” لاحقاً إلى عنوان لقصيدة نظمها الشاعر إبراهيم طوقان، لكن يبدو أن تلك الحادثة خلدها شاعر آخر أقل شهرة بكثير من طوقان. إنه الشاعر الشاب نوح إبراهيم (1913 – 1938) الذي كتب الشعر كما يحكيه الناس العاديون.
عاش إبراهيم المولود في حيفا مع أسرته بدخل شحيح، بعد مقتل والده وكان نوح طفلاً. بعد أن أنهى تدريبه في مدرسة مهنية في القدس في سن الــ 16، عاد إلى حيفا ليعمل في مطبعة مصنع تبغ.
وعلى عكس نخب فلسطين الأدبية في ذلك الحين، لم يكتب إبراهيم سوى الزجل. لا يمكن أبداً تحديد النسخ “الأصلية” من قصائد نوح إبراهيم، فقصائده تكون حين تُؤدى، وتتشكل على لسان من يتلوها، لتتغير ويضاف إليها أبيات وتحذف أخرى خلال الأداء.
إنها قصائد تعيش لحظتها، ويصعب ربطها بظرف أو مكان، تماماً كصاحبها الذي عاش وعمل في فلسطين والعراق والبحرين، وسافر في أرجاء العالم العربي.
ومما كتبه نوح إبراهيم في ذكرى حجازي وجمجوم والزير:
نادى المنادي يا ناس إضرابِ،
يوم الثلاثة شنق الشبابِ،
أهل الشجاعة عطا وفؤادِ،
ما يهابوا الردى ولا المنونا
منذ ثلاثينيات القرن الماضي أصبحت قصيدة “من سجن عكّا”، أغنية شعبية واسعة الانتشار. وأشهر نسخها تلك التي سجّلتها في الثمانينيات “فرقة العاشقين” التي جابت العالم العربي من فلسطين وصولاً إلى الجزائر واليمن.
ورغم أنه عُرف بكونه شاعر الثورة الفلسطينية، كان لنوح إبراهيم جانب أقل جدية. ففي إحدى قصائده، يلعن الشيطان الذي زيّن له إهدار كامل راتبه على القمار والخمر، وفي قصيدة أخرى يسخر من الرجل المتزوج من امرأتين.
في العام 1937، دخل نوح إبراهيم سجن عكّا الذي كان قد غنّى لشهدائه، وقضى فيه 5 أشهر.
هناك، ذاع صيته بكتابة قصائد للأسرى وتلاوتها عليهم، ومنها قصيدة “السيد بايلي” التي تحولت إلى نشيد وطني للأسرى والأسيرات خلال سنوات الانتداب البريطاني.
عقب إطلاق سراحه انضم إبراهيم إلى رفاقه في الثورة الفلسطينية، من دون أن ينقطع عن كتابة الزجل، وباتت شعبيته واسعة إلى حد دفع الرقابة البريطانية على الصحافة إلى منع نشر قصائده.
لم يُكتب لنوح إبراهيم شهرة كبيرة، حيث استشهد في العام 1938 في معركة غير متكافئة مع الاحتلال البريطاني في الجليل.
الميادين