بعد انتخاب ملحد رئيسا لمجتمع جامعة هارفارد الديني.. صعود الإلحاد أم تراجع الدين في أميركا؟

في نهاية أغسطس/آب 2021، انتخبت منظمة “جامعة هارفارد للقساوسة” جريج إبستين رئيسًا للقساوسة في المجتمع الديني بالمؤسسة التعليمية العريقة، وسيكون إبستين -الملحد ذو الأصول اليهودية ومؤلف كتاب “الخير بدون إله”- مسؤولا عن تنسيق نشاط أكثر من 40 قسيسًا في الجامعة يمثلون مجموعة واسعة من الخلفيات الدينية.

واستحوذ انتخاب إبستين على اهتمام وسائل الإعلام، وصور البعض فكرة رجل دين ملحد على أنها معركة أخرى في حروب الثقافة التي تشتهر بها أميركا.

وعلقت بعض وسائل الإعلام بالقول إنه من المفترض أن تكون ترقيته إلى المنصب رسالة انفتاح على أعداد أكبر من الأميركيين الذين يعدون أنفسهم مؤمنين بروحانية ما، لكنهم ليسوا متدينين بدين معين، وقال إبستين ذات مرة “هناك مجموعة متزايدة من الأشخاص الذين لم يعودوا يتعاطفون مع أي تقليد ديني، ولكنهم ما زالوا يواجهون حاجة حقيقية للحوار والدعم حول ما يعنيه أن تكون إنسانًا صالحًا وتعيش حياة أخلاقية”.

وصُنفت الولايات المتحدة بين عامي 1981 و2007 واحدة من أكثر دول العالم تدينا، مع تغير طفيف في مستويات التدين، ولكنها منذ ذلك الحين أظهرت أكبر معدلات عزوف عن الدين مقارنة بأي بلد آخر.

ومع اقتراب نهاية تلك الفترة كان متوسط تقدير الأميركيين لأهمية الرب في حياتهم 8.2 نقاط على مقياس من 10 نقاط.

وفي أحدث دراسة استقصائية أجريت في الولايات المتحدة عام 2017 انخفض الرقم إلى 4.6، وهو انخفاض حاد على نحو مذهل.

وأشارت دراسة نشرها مركز بيو للأبحاث عام 2019 إلى أن التدين في الولايات المتحدة في تراجع حاد، إذ تتزايد جموع الأشخاص الذين لا يلتزمون بأي دين سريعا، في وقت انخفض فيه حضور الكنيسة بشدة.

وتظهر دراسات حديثة أن تاركي الدين في جميع أنحاء العالم يُصنّفون في منزلة وسطى بين غير المتدينين إطلاقا والمتدينين، من حيث الأفكار والمشاعر والسلوك، ويحتفظ كثير منهم ببعض صفات المتدينين، مثل التطوع والعمل الخيري.

تحولات جديدة
وفي المقال المشترك الذي نشرته أستاذتا علم الاجتماع بيني إدجيل وويني كادج، قالت الكاتبتان إن الاتجاهات التي يعكسها موقف إبستين ليست جديدة؛ إذ تزايدت أعداد الأميركيين غير المتدينين بدين، الذين يشار إليهم أحيانًا باسم “اللادينيين”، من 7% من السكان عام 1970 إلى أكثر من 25% اليوم، في حين يقول 35% من جيل الألفية إنهم لا ينتمون إلى أي دين معين.

وأضافت الكاتبتان -في مقالهما لموقع ذا كونفيرذيشن (the conversation)- أنهما بوصفهما باحثتين في علم اجتماع الدين، فقد قامتا بدراسة هذه التحولات وآثارها، وفي دراسة حديثة مع زملائهم في جامعة مينيسوتا يظهر أنه على الرغم من أن الأميركيين أصبحوا أكثر قبولا لأشكال بديلة من الروحانية، فهم لا يزالوا أقل تقبلا لمن يعتبرونه علمانيا تماما.

وتجادل الكاتبتان بأن انتخاب إبستين يمثل تحولًا يُظهر زيادة ظهور الأميركيين غير المتدينين وقبولهم في البلاد، في الوقت نفسه تُظهر الضجة المثارة حول منصبه عدم الارتياح الأخلاقي المستمر للعديد من الأميركيين بشأن الإلحاد.

ويبدو أن إبستين يفهم هذه المعضلة الثقافية ويؤكد التزاماته بالعدالة الاجتماعية والإنسانية، ويتبنى فلسفة ترفض المعتقدات المتعالية عن الطبيعة، وهو بذلك -حسب الكاتبتين- يصبح متحدثا باسم شيء جديد في السياق الأميركي: الإلحاد الذي يؤكد صراحة على التزامه الأخلاقي.

الرتب الدينية
لطالما ولّد الإلحاد خلافًا في الولايات المتحدة يعود إلى الحقبة الاستعمارية، لكن “العصر الذهبي” للفكر الحر في أواخر القرن 19 أدى إلى ظهور أول التعبيرات العامة عن التشكك في الدين.

وأثار المحامي والخطيب العام روبرت إنجرسول غضب الزعماء الدينيين عندما كان يحاضر عن اللاأدرية في القاعات التي امتلئت بها الحشود في جميع أنحاء البلاد.

في عشرينيات القرن الماضي، سلطت “محاكمة القرد” التي تناولت تدريس نظرية داروين للتطور في المدارس العامة الضوء على الصراعات حول السلطة الدينية في القوانين والمؤسسات الأميركية. في هذه الأثناء، أثر المتشككون السود في الدين -الذين غالبًا ما يغفلهم الباحثون- على فنانين مثل زورا نيل هيرستون، ولاحقًا، جيمس بالدوين.

ويعرف العديد من الأميركيين الناشطة مادالين موراي أوهير، التي تحدت الصلاة المسيحية وقراءات الكتاب المقدس في المدارس العامة في الستينيات وأسست المنظمة التي سميت “ملحدين أميركيين”.

وفي الآونة الأخيرة، عزز عدد متزايد من المنظمات الملحدة الفصل بين الكنيسة والدولة، وحاربوا التمييز، ودعموا السياسات المؤيدة للعلم على حساب الدين، وشجعوا الشخصيات العامة على “إظهار” إلحادهم.

الملحدون السود، الذين لا يشعرون دائمًا بالترحيب في المنظمات التي يقودها البيض، شكلوا منظماتهم الخاصة، وتركز غالبًا على العدالة الاجتماعية.

الإيمان والثقة
رغم هذا التنظيم والظهور المتزايد، فإن نسبة كبيرة من الأميركيين لا يثقون في الملحدين ليكونوا جيرانًا ومواطنين جيدين، ووجدت دراسة استقصائية وطنية أميركية عام 2014 أن 42% من الأميركيين قالوا إن الملحدين لا يشاركونهم “رؤيتهم للمجتمع الأميركي”، و 44% لا يريدون أن يتزوج أبناؤهم من ملحد. لم تتغير هذه النسب المئوية تقريبًا في متابعة عام 2019.

تؤثر هذه المواقف على الشباب، مثل أولئك الذين يخدمهم إبستين، ثلث الملحدين الذين تقل أعمارهم عن 25 قالوا إنهم عانوا من التمييز في أماكن الدراسة، وأكثر من 40% يقولون إنهم يضطرون لإخفاء هويتهم اللادينية في بعض الأحيان خوفا من وصمة العار.

بصفته قسيسًا، تتمثل مهمة إبستين في توفير التوجيه الروحي والمجلس الأخلاقي للطلاب، مع التركيز بشكل خاص على أولئك الذين لا يتماهون مع التقاليد الدينية. هو نفسه يعرّف بأنه ملحد، ولكنه أيضًا إنساني، حسب اعتقاده.

في المجتمع الأميركي يتم قبول التوجهات “الإنسانية” بشكل متزايد كنظام أخلاقي بديل عن الدين، الذي يتفاعل معه البعض بشكل أكثر إيجابية من الإلحاد، والذي يُنظر إليه على أنه رفض للدين، ومع ذلك فإن الفكرة لا تحظى بقبول كبير ولم تنجح الجهود المبذولة لضم قساوسة ملحدين في الجيش.

يمثل ابستين نهجًا مختلفًا عن الملحدين البارزين الأكثر تشددًا، ولا سيما حركة برايتس وما يسمى بالمثقفين الملحدين الجدد مثل ريتشارد دوكينز أو كريستوفر هيتشنز. لا يتخذ إبستين موقفًا “ضد الدين” ولكنه يسعى إلى التعاون مع الزعماء الدينيين في الأمور ذات الاهتمام الأخلاقي المشترك.

الجزيرة – ذا كونفرسيشن