“الدحيح” يتعاون مع منصات مقربة من الاحتلال إنتاجيًّا

صدمة وخيبة أمل كبيرتان أصابتا المجتمع الرقمي العربي، صناع محتوى ومتابعين، بعد انخراط أحد أشهر اليوتيوبرز مقدمي المحتوى العلمي (بوب ساينس: العلوم للعموم) مرئيًّا، إن لم يكن أشهرهم بالفعل، أحمد الغندور الذي ذاع صيته منذ ظهوره باسم “الدحيح”، في الاعتماد على وكالة إماراتية مقربة جدًّا من دوائر إسرائيلية، من أجل إنتاج موسم جديد من برنامجه العلمي.

الحكم بأن الدحيح على الأرجح أشهر مقدمي مواد تبسيط المحتوى العلمي مرئيًّا، يأتي استنادًا على الأرقام التي حققها خلال الأعوام الأخيرة منذ ظهوره بشكل شبه مستدام عبر منصات مختلفة، ولكن الغندور غاب عن المشهد العلمي لمدة تزيد عن العام، بعد تجربة قصيرة في التعاون مع منصة “شاهد” التابعة لمجموعة MBC السعودية، لم تتجاوز الموسم الواحد الذي اقتصر على 5 حلقات فقط.

في هذه الفترة منذ عام، أثار قرار انضمام الدحيح إلى المعسكر السعودي لغطًا كبيرًا وتساؤلات، على رأسها: هل تعني هذه الخطوة انخراط اليوتيوبر رسميًّا في مشروع الدولة السعودية الجديد، لتغيير الوجه المتزمت القديم للمملكة، عبر التوسع في الأنشطة الترفيهية والإعلامية والفنية والعلمية؟

وخصوصًا أنه كان قبل هذه النقلة جزءًا من مؤسسة +AJ التابعة لقناة “الجزيرة” القطرية، وكان التقدير المتداول حينها أن الدحيح أراد النأي بنفسه عن احتمالات الصدام مع النظام المصري، حيث قدرت بعض دوائره أن المنصة القطرية تستخدم الدحيح “رافعة” للمحتوى، من أجل الترويج لمحتواها الرئيسي (السياسي) ضمن شرائح جديدة غير تقليدية يجتذبها الدحيح في البداية.

أيًّا كان السبب، لم تعلن “الجزيرة” عن سبب أكثر من إعادة ترتيب البيت الداخلي في ظل ظروف الجائحة، ما طرح سؤالًا حول: هل تكون إعادة ترتيب البيت الداخلي عبر التخلي عن أهم برنامج في باقة قنوات المنصة على الإطلاق، في الوقت الذي تترك فيه برامج أقل شهرة وأهمية؟ فيما اكتفى الدحيح بتقديم الشكر للمؤسسة القطرية وفريق العمل على الفترة التي قضاها جزءًا منهما، دون الإشارة إلى الأسباب الحقيقية لهذا القرار أيضًا.

ما نود قوله إنه بالنظر إلى هذه المعطيات، كان متوقعًا أن تكون عودة الدحيح للظهور من جديد حدثًا استثنائيًّا على مستوى تفاعل الجمهور مع الحدث، وقد كان؛ فقد حصلت الحلقة الأولى خلال الساعات السبع الأولى لنشرها على أكثر من مليون مشاهدة، إذ يبدو أن الجمهور لم يشعر بـ”الملل” بعد من الدحيح خلال مسيرته الممتدة في الأعوام الأخيرة.

ولكن كثيرًا ما تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، إذ سرعان ما تحولت هذه الحفاوة البالغة في لمح البصر، إلى دعوات لمقاطعة الدحيح، بعد رصد عدد من المتابعين أن المؤسسة الجديدة التي يتعاون معها اليوتيوبر في نشر مواده المرئية هي منصة إماراتية، تأسست من أجل أغراض من بينها تعميق التعاون الثقافي الناعم مع دولة الاحتلال.

نيو ميديا: واجهة إماراتية للترويج للاحتلال
من الضروري أولًا أن نعرف أن هذه الأزمة ليست الأولى التي يتعرض لها برنامج الدحيح على نطاق واسع، إذ سبقها مناوشات افتراضية امتدت إلى وقت غير قصير، بخصوص ما إذا كان المحتوى الذي يقدمه البرنامج علميًّا بشكل حقيقي أم “إلحاديًّا” يتنكر في ثوب العلم، إثر استعانة الغندور بمواد ومضامين مستعارة من أدبيات ما تعرف بـ”مدرسة الإلحاد الجديد”.

كما اتُّهم الغندور من قبل بسرقة بعض الأفكار وأساليب العرض من معدي محتوى أجانب معروفين في الخارج، وكان قد سُرب له مقطع فيديو قصير من كواليس تصوير برنامجه الأخير “متحف الدحيح”، يُظهر قيام شخص في الخلفية بتلقين الدحيح الجمل التي يقولها في الحلقة، والإيماءات التي سينطق بها هذه الجمل بشكل حرفي.

ومع ذلك، حتى لو استمرت مناقشة هذه الأزمات وقتًا طويلًا بعض الشيء في حينها، فإنها، كما يبدو، لم تؤثر على الدحيح، كما أثرت، وتؤثر، فيه أزمة هذه المرة.

فقد توصل باحثون إلى أن المؤسسة التي استعان بها الدحيح لنشر الحلقة الأولى من موسمه الجديد، هي مؤسسة إماراتية لها أهداف براقة من الخارج، مثل دعم المحتوى الرقمي العربي، أو كما تصف نفسها رسميًّا: “مؤسسة تعليمية تطرح مجموعة واسعة من البرامج التعليمية في مجال الإعلام الرقمي باستخدام تقنيات التعلم عن بعد، وتستهدف تعزيز مهارات المنتسبين إليها لتخريج أفراد مؤثرين ومبدعين مؤهلين لقيادة قطاع الإعلام والمحتوى الرقمي”.

غير أن هذه المؤسسة تسعى بالفعل في الواقع، من ضمن ما تسعى إليه، إلى تعميق التعاون التطبيعي الثقافي الناعم مع دولة الاحتلال، خاصة بعد أن أبرمت اتفاقًا للتعاون مع مؤسسة ناس ديلي التابعة لمدوّن الفيديو الداعي للتطبيع نصير ياسين، بعد أن دُشنت بواسطة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي، رئيس الوزراء ونائب رئيس الدولة، في يونيو/ حزيران 2020، بالتزامن مع إطلاق شرارة حملة التطبيع العربي “الإسرائيلي” بين الإمارات ودولة الاحتلال.

ليس هذا وحسب، فقد أعلنت مؤسسة ناس ديلي في سبتمبر/ أيلول الماضي، إطلاق برنامج تعاون ثنائي يهدف إلى تدريب 80 صانع محتوى عربي، من خلال الأكاديمية التي يرأس قسم الإشراف والتدريب فيها الإسرائيلي جوناثان ديليك، وذلك بتمويل من أكاديمية “الإعلام الجديد” الإماراتية.

بناءً على ذلك، أصدرت اللجنة الوطنية الفلسطينية للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على الاحتلال (BDS)، بيانًا سابقًا يشرح أبعاد هذه الخطوة بين كل من الاحتلال والإمارات، وبرنامج التدريب التابع لمؤسسة ناس ديلي والمؤسس نصير ياسين.

خلص البيان إلى أن “مشروع ناس ديلي والمشاريع المماثلة تهدف لاستعمار العقول العربية وترويج القبول بالاستعمار الإسرائيلي للأراضي العربية كقدر، ضمن خطوات عدة لتصفية القضية الفلسطينية وتبييض جرائم الاحتلال”.

تأتي هذه الخطة ضمن “جهود “إسرائيل” التي تنفق مبالغ هائلة على حملات إعلامية تطبيعية من خلال نشر محتوى غير سياسي يظهرها وكأنها دولة طبيعية متطورة يمكنها مساعدة جيرانها العرب بمعزل عن جرائمها ضد الشعب الفلسطيني والأمة العربية والعداء التاريخي لها كنظام استعماري وعنصري”.

أما فيما يخص نصير ياسين، اليوتيوبر الشهير الذي يقدم محتوى اجتماعيًّا وترفيهيًّا مشوقًا، باستخدام مؤثرات بصرية متطورة، فإنه يهدف في الحقيقة بشكل رئيسي وفقًا للبيان، إلى “تصوير الصراع مع “إسرائيل” كأنه صراع متكافئ بين الطرفين، متجاهلًا حقوق الشعب الفلسطيني”.

وبالنسبة إلى المموّل الإماراتي، فقد اعتبر البيان أن “الدعم المقدم من النظام الاستبدادي في الإمارات يشكل تواطؤًا صريحًا مع الجهود الإسرائيلية لغزو عقول شعوبنا وتلميع جرائم الاحتلال، نظام الاستعمار الاستيطاني والأبرتهايد، فضلًا عن تمرير اتفاقية العار التي أبرمتها مع الاحتلال”.

نُصير ياسين: الحلقة الفاعلة
من ضمن الرباعي الذي أشار إليه بيان اللجنة الوطنية الفلسطينية لتنظيم جهود مقاطعة الاحتلال ومحاربته سلميًّا، الاحتلال والإمارات وبرنامج ناس ديلي والمدوِّن؛ فإن نصير ياسين صاحب القناة، الوجه الذي بات مألوفًا لكثير من الشباب في الوطن العربي، يعدّ الحلقة الفاعلة بين هذه الأطراف الأربعة، بسبب عمله التطبيقي على أرض الواقع، بالمقارنة بباقي الكيانات الراعية والمموّلة التي ذكرها البيان.

تصديقًا لهذا الطرح، فإن الإحصاءات المتعلقة بنشاط هذا الشاب خلال الفترة الأخيرة التي ظهر بها، تقول إنه أنتج ونشر أكثر من ألف مقطع فيديو قصير بصورة يومية، لمدة تصل في المتوسط إلى دقيقة واحدة، وحصدت قناته ناس ديلي أكثر من 20 مليون متابع على إنستغرام وفيسبوك.

في البداية، كان معظم هذا المحتوى عاديًا خاليًا من أي حمولة فكرية، ولكنه بدأ لاحقًا في الإشارة إلى المضامين الخطيرة المتعلقة بالتطبيع، بعد أن كوّن شريحة جماهيرية عريضة من شباب الوطن العربي.

يخطط نصير ياسين، عبر مؤسسته التي أنشأها، إلى تدريب عدد ضخم من صناع المحتوى العربي من الجنسين في الفترة القادمة، فنيًّا ومضمونًا، وذلك بالتعاون مع مؤسسة نيو ميديا أكاديمي، التي ستتولى مسؤولية الرعاية والتمويل.

ويشرف على هذه الأكاديمية خبراء أجانب مرموقون في الإعلام الرقمي، مثل كيليب غاردنر مدير فريق الإعلام الرقمي في الحملة الرئاسية لأوباما، ونيل باتل المتخصص في التسويق الإلكتروني، والذي يحظى بعلاقات تجارية متميزة وزيارات إلى الجانب الإسرائيلي.

ما يخشى منه المدونون والنقّاد العرب، أن يكون الدحيح في طريقه للتحول إلى ذراع إماراتية إسرائيلية جديدة، في مجال تقديم المحتوى العلمي بشكل مبسط على اليوتيوب، ليقوم بالدور نفسه الذي قيل إنه ترك مؤسسة “الجزيرة” من أجله بضغوط من النظام المصري: رافعة وواجهة لاستقطاب شرائح غير تقليدية من المشاهدين لهذه المنصات، من أجل حشو أدمغتهم بالمفاهيم المخاتلة عن التطبيع والسلام غير المشروط مع المحتل، من خلال برامج أخرى ليس من الشرط أن يكون من بينها برنامج الدحيح بشكل مباشر، فالمؤسسة الإماراتية تنتج 9 برامج أخرى بخلاف الدحيح حتى الآن.

مستقبل الحملة
بالنسبة إلى الإمارات، فإنها تهدف من ضمن ما تهدف من دعم هذه البرامج البراقة، إلى تلميع صورتها المتداولة في أروقة الصحافة الاستقصائية من كونها وكرًا للأنشطة غير المشروعة، أخلاقيًّا وجنائيًّا وسياسيًّا، إلى كونها حاضنة للمبدعين والمفكرين والشباب المؤمنين بالليبرالية غير السياسية من كل أنحاء العالم العربي، في الوقت نفسه الذي يتعمد فيه معدو المحتوى العلمي المحسوبون عليها، تقديم مواد جدلية تتعارض مع الثوابت الدينية، بحيث تثير حفيظة التيارات المحافظة، على نحو يظهرها في ثوب معارضة العلم بالكلية.

أما الدحيح، فبمجرد اقتران اسمه بالمؤسسة الإعلامية الإماراتية، فقد قفزت أسهم المؤسسة عاليًا في سماء معادلات التفاعل الافتراضي، بعد أن حققت الحلقة الأولى ما يصل إلى 2 مليون مشاهدة خلال كتابة هذا التقرير، في حين كانت أعلى مادة مرئية في هذه القناة على الإطلاق بالكاد تجاوزت مشاهداتها حاجز نصف مليون مشاهدة، بالإضافة إلى طفرة هائلة في أعداد المشتركين في القناة، بحيث قاربت الوصول إلى 400 ألف مشترك في غضون ساعات قليلة من نشر الحلقة الأولى.

لذلك بات الدحيح يشبّه من زاوية ما، لقدرته على إحراز أرقام هائلة وغير مسبوقة في مجاله، بالنجم المصري في كرة القدم محمد صلاح، في الوقت نفسه الذي تدفع خلاله هذه النجاحات الرقمية بهذين النجمين إلى تجنب اتخاذ أي مواقف نوعية تجاه الشأن العام، فضلًا عن التماهي مع التيارات الرائجة، حتى لو كانت مضامين هذه التيارات لا تتناسب أبدًا مع الآمال المعلقة على هذه القدوات أخلاقيًّا وثقافيًّا، على سبيل المثال.

ففي الوقت الذي ما زال صلاح يحافظ على نفسه في مصافّ نجوم الدوري الإنجليزي بثبات للعام الثالث على التوالي، فإنه تجنب إظهار أي دعم حقيقي للقضية الفلسطينية في فترة التصعيد الأخيرة، مع غلبة شعور عام لديه بأنه لا داعي لذلك أصلًا، وإن فعل ذلك، وخلافًا للثمن الذي قد يتورط في دفعه، فإنه ينظر إلى آراء ونضالات المجتمع بنوع من الازدراء.

من هذا المنظور أيضًا، ومن خلال خبرات سابقة، أبى الدحيح التراجع أو الاعتذار عن أخطاء وقع فيها، ويمكن القول إن الدحيح لن يعدل عن طريقه في العمل مع هذه المؤسسات، مستقويًا بجحافل محبيه (دراويشه من المراهقين)، الذين يستميتون في الدفاع عنه بلا أي تروٍّ، وطاقم إعداده الذي يميل فكريًّا إلى هذا الاتجاه، ومغترًّا بسطوة المؤسسات الإماراتية على الرأي العام في العالم العربي، ومسترشدًا بحقيقة أن لكل “تريند” عمرًا قصيرًا سينتهي عاجلًا أم آجلًا ليحل محله “ترند” آخر، ومقتديًا بمضمون الكتاب الذي روّجه نجم الكرة المصري محمد صلاح مؤخرًا، حينما وقعَ في أزمات مشابهة: “فن اللامبالاة”.

ولكن إلى أي مدى قد تنجح هذه الخطة، وإلى أي وقت ستكون صالحة لحماية الدحيح من الغضب الشعبي المتصاعد ضده؟

أحمد سلطان – نون بوست