مثل الخفافيش.. كيف يمكن للإنسان أن يحدِّد مواقع الأشياء من حوله باستخدام الصدى؟

للخفافيش مكانةٌ خاصة في مخيال الإنسان المعاصر، جسَّدتها شخصية «باتمان» في أفلام ومسلسلات عدَّة، وآخر جولات البشر معها في فيروس «كورونا»، الذي يُعتقد أنَّه انتقل من الخفافيش للبشر. ولكن لهذا المخلوق قدرات مميَّزة أخرى، منها استخدامه للموجات فوق الصوتية لتحديد الأجسام والأشياء من حوله في الظلام.

وعادةً ما نربط هذه المهارة بحيوانات مثل الخفافيش والحيتان، ولكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن معظم البشر يمكنهم، مع التدريب الكافي، تعلم كيفية تحديد موقعهم بالصدى، واستخدام ألسنتهم لإصدار أصوات معينة وتفسير أصوات الأصداء التي تنعكس من البيئة المحيطة.

المكفوفون يستخدمون الصدى
يستخدم بعض البشر من المكفوفين أصداء أصواتهم لاكتشاف العوائق وحدود المناطق المناسبة ليتحركوا فيها دون الاصطدام بالأجسام القريبة، ويستخدم بعضهم النقر على عصا، أو طقطقة أصابعهم، لإخراج الصوت ومن ثم رصد صداه، ويستخدم بعضهم أفواههم لإصدار صوت طقطقة.

وعلى الرغم من فعالية هذه المهارة، فإن القليل جدًّا من المكفوفين يتعلمون استخدامها، وحاول خبراء صدى الصوت نشرها منذ سنوات بشكل أكبر بين المكفوفين، وبحسب أحدث الدراسات، فإن كل ما هو مطلوب لإتقان هذه التقنية هو جدول تدريب بسيط.

المكفوفون والمبصرون.. وتعلم تقنية الصدى
استخدام تقنية صدى الصوت لتحديد المواقع ممكنٌ للمكفوفين والمُبصرين على حد سواء، فهذا ما أكدته دراسة نشرت مطلع شهر يونيو (حزيران) 2021، وأظهرت أنه على مدار 20 جلسة تدريبية، استغرقت كل منها بين الساعتين والثلاث ساعات، فإن المشاركين المكفوفين والمبصرين، كبارًا وصغارًا، تحسَّنت بشكل كبير لديهم القدرة على تحديد المواقع بالصدى مستعملين صوت النقرات.

وعلى مدار 10 أسابيع تقريبًا، تدرب المشاركون على التحرُّك في متاهات افتراضية، من ممرات فيها تقاطعات على شكل حرف «T»، وانحناءات على شكل حرف «U»، ومسارات متعرجة، ثم حاولوا تحديد حجم واتجاه الأجسام باستخدام صوت النقرات، أو الطقطقة الخارج من الفم.

وفي الجلستين الأخيرتين من التدريب، اختبرَ الباحثون مهارات المشاركين في متاهة افتراضية لم يجرِّبوها من قبل، وكانت نتائجهم جيدةً جدًّا، إذ اصطدموا بالجدران بدرجة أقل منها عند دخولهم في التدريب، وهذا يعني أن أصداء أصوات نقراتهم كانت تساعدهم بالفعل على التنقل في المسار المجهول بسهولة أكبر من ذي قبل.

ووجدَ الباحثون أن هؤلاء المشاركين والمتدربين حديثًا اقتربَ أداؤهم في هذه المتاهة من أداء سبعة خبراء في تحديد الصدى، مارسوا هذه المهارة لسنوات، ولاحقًا في اختبارات أخرى لتحديد شكل واتجاه أسطح معينة باستخدام الصدى، كانت مهارة المشاركين المُدرَّبين حديثًا مساويةً تمامًا لمهارة الخبراء.

هذه الدراسة ليست الوحيدة التي تثبت إمكانية تعلم المبصرين، وليس المكفوفين فقط، مهارة تحديد المواقع بالصدى، فقد وجدت دراسات سابقة نتائج مشابهة بالفعل، ولكن ما تضيفه الدراسة الأحدث أنها الأولى التي تختبر ما إذا كانت النتائج تمتد لتشمل مختلف الأعمار والمكفوفين أيضًا.

قصة استخدام البشر لصدى الصوت
تعود التقارير التي توثِّق قدرة المكفوفين على تحديد مواقع الأشياء باستخدام الصوت إلى عام 1749، ولكن مفهومَ «تحديد الموقع بالصدى» صاغه لأول مرة عالم الحيوانات، دونالد جريفين، عام 1944، وفي خمسينيات القرن الماضي صارَ من المعروف أن البشر يمكنهم التمرس في هذه المهارة.

وسابقًا قبل توثيق المفهوم علميًّا، كان تحديد الموقع بالصدى عند الإنسان يوصف أحيانًا بـ«رؤية الوجه»، أو «الإحساس بالعقبة»؛ إذ كان يعتقد أن هذه المهارة التي يتميز بها البعض سببها أن قرب أجسامٍ من جسم الإنسان يحدث تغيرًا في مستوى الضغط على الجلد، ومن ثم يشعرُ الإنسان بالأجسام المحيطة.

ولكن في الأربعينيات من القرن الماضي، أظهرت سلسلة من التجارب أن الصوت والسمع، وليس تغيُّر الضغط على الجلد، كانت هي الآليات التي تُستخدم من خلالها هذه المهارة.

كيف يُدرك الإنسان الأشياء عبر الصدى؟
يوجد في الدماغ منطقة تسمى القشرة البصرية للدماغ، أو الأجزاء البصرية، وهي منطقة في القشرة الدماغية، مخصصة لمعالجة المعلومات المرئية، حيث تستقبل كل المدخلات الحسية الآتية من العين وتعالجها، ويوجد في نصفي الدماغ كليهما جزءٌ من القشرة البصرية، ويتسقبلُ النصف الأيمن من الدماغ ما تُرسله العين اليسرى (المجال البصري الأيسر)، ويستقبل النصف الأيسر ما تستقبله العين اليُمنى (المجال البصري الأيمن)، هذه المنطقة نفسها من الدماغ تُعالج الموجات الصوتية القادمة عبر الأذن؛ ما يجعل استخدام الصوت، مجازًا، مثلَ الرؤية بالعين، لأن الدماغ يعالج موجات الصوت مثلما يعالج الصُور.

هذه الأجزاء البصرية من الدماغ هي التي تسمح لمحترفي استخدام الصدى «برؤية» العالم من حولهم، ولم يتضح حتى الآن ما إذا كان أولئك الذين يكبرون دون إبصار، يمكنهم استخدام الشبكات العصبية في منطقة القشرة البصرية بكفاءة الأشخاص المبصرين نفسها أم لا.

ومثلما تعالج العين موجات الضوء المرتدة عن الأسطح من حولنا، يعالج النظام السمعي للبشر الموجات الصوتية أثناء انتقالها من مصدرها، ثم عند ارتدادها عن الأسطح ودخولها للأذنين. يمكن لكلا النظامين، السمعي والبصري، تحليل قدر كبير من المعلومات عن الأشياء المحيطة بالإنسان من خلال تفسير الأنماط المعقدة لهذه الموجات المنعكسة التي يتلقاها، وفي حالة الصوت، تسمى موجات الطاقة المنعكسة هذه بـ«الصدى».

وباستخدام الصدى، يمكن للإنسان أن يلتقط معلومات معقدة ومفصلة عن مسافات بعيدة حوله، مثل طبيعة وترتيب الأشياء، ووجود الأعمدة والجدران والمداخل والفواصل والأرصفة، والسيارات المتوقفة أو المتحركة، والأشجار وغيرها الكثير من الأجسام، ويُوصل الصدى للدماغ معلومات مفصلة عن موقع الإنسان (مكان وجود الكائنات)، والأبعاد (حجمها وشكلها العام)، والكثافة (مدى صلابة هذه الأشياء).

ونظرًا إلى أن الأفراد المبصرين يتعلمون عن بيئاتهم باستخدام الرؤية بشكل أساسي، فإنهم غالبًا لا يتعرفون بسهولة إلى صدى الأصوات المرتد عن الأشياء القريبة من حولهم، وسببُ ذلك ما يعرف بـ«تأثير الأسبقية»، وهو أن البصر يأتي أولًا، وبالتالي تتراجع قدرات الحواس الأخرى.

من الممكن تعلمها متأخرًا
التقدُّم في السن لا يؤثِّر في قدرة الإنسان على تعلم هذه المهارة، رغم أن القدرات الذهنية والسمعية والبصرية تتراجع مع تقدم السن.

وتُظهر الدراسة الأخيرة تمكُّن المكفوفون الذين تبلغ أعمارهم 79 عامًا من اكتساب المهارة بعد تدريبهم عليها، فالتقدم في السن في حد ذاته لم يكن سببًا لاصطدامهم أكثر من غيرهم في المتاهات التي ساروا فيها، ولم يجد الباحثون أي ارتباط بين العمر والأداء في المهام المختلفة المرتبطة بتحديد المواقع والأشكال، ما لم تتراجع حاسة السمع مع التقدم في السن، ويظلُّ خيار استخدام السماعات الطبية متاحًا لتجاوز المشكلة.

ساسة بوست