“خلال حكم الملك الصغير الذي خلف والده كجلالة الملك صاحب التيجان العظيم الذي أنشأ مصر المخلص للآلهة المنتصر على أعدائه وأعاد الحياة الكريمة للناس المشرف على احتفال الـ30 عاما العادل مثل هيفايستوس الأكبر ملك مثل الشمس..”
هذه السطور مكتوبة على حجر من البازلت اكتشفه ضابط فرنسي في مثل هذا اليوم 19 يوليو/تموز 1799 في مدينة رشيد المصرية، وأسهمت بدور عظيم في الكشف عن أسرار واحدة من أعظم الحضارات الإنسانية في التاريخ، ولا يزال الحجر الشهير يخطف أنظار زائري المتحف البريطاني، وتحاول مصر استعادته أو استعارته لعرضه في مهده دون جدوى.
هذا الحجر البالغ طوله 113 سنتيمترا، وعرضه 75 سنتيمترا وثخنه 27.5 سنتيمترا يتضمن مرسوما من الكهنة المجتمعين في مدينة منف -قرية ميت رهينة بالجيزة اليوم- يشكرون فيه الملك بطلميوس الخامس (نحو عام 196 ق.م) لقيامه بتخصيص الأوقاف للمعابد وإعفاء الكهنة من بعض الالتزامات.
سجل هذا المرسوم بـ3 خطوط هي، من أعلى إلى أسفل، الهيروغليفية والديموطيقية ثم اليونانية القديمة، وقدم الكهنة تقديرهم للملك البطلمي بالخط الرسمي الهيروغليفي، ثم الخط الديموطيقي خط الحياة اليومية السائد في تلك الحقبة، ثم بالخط اليوناني الذي تكتب به لغة البطالمة الذين كانوا يحتلون مصر، حسب مكتبة الأسكندرية.
صراع بين الفرنسيين والإنجليز
ونقل الحجر إلى القاهرة بناء على أوامر نابليون بونابرت، واقترح المكتشفون أن الحجر يحوى نصا واحدا بـ3 خطوط مختلفة، ونُسخت نسخ عدة من المرسوم ليكون متاحا للمهتمين بالحضارة المصرية القديمة.
وبعد هزيمة الفرنسيين أمام الإنجليز، وقّعت اتفاقية بين الجانبين لتنهي الحملة الفرنسية على مصر، وتسلّمت إنجلترا حجر رشيد، ونُقل إلى بريطانيا عام 1802، ليبدأ باحثون إنجليز دراسة الحجر الفريد.
فك الرموز
وبينما كان يكافح علماء إنجلترا لفك رموز حجر رشيد، وأهمهم الفيزيائي والطبيب توماس يونغ (1773-1829) الذي بدأ فك رموز اللغة الهيروغليفية، كان شاب فرنسي متحمس اسمه جان فرانسوا شامبليون (1790-1832) يبذل قصارى جهده لحل اللغز القديم.
اعتمد شامبليون على فرضية أن هذا المرسوم الصادر في عهد الملك بطلميوس الخامس لا بد قد كتب إلى جانب اليونانية القديمة بخطين من خطوط اللغة الوطنية، وافترض أن اسم الملك بطليموس باليونانية سوف يتكرر في الخطين الهيروغليفي والديموطيقي، وتثبت من صحة افتراضه عندما اعتمد على نقوش لمسلة “فيلة” سجّلت بالهيروغليفية واليونانية لتكريم بطلميوس بالإضافة إلى اسم “كليوباترا”.
واستطاع “شامبليون” أن يتعرف على القيمة الصوتية لبعض العلامات الهيروغليفية اعتمادًا على قيمتها الصوتية في اليونانية، ومع مزيد من الأبحاث والدراسات المقارنة استطاع أن يتعرف على القيمة الصوتية لكثير من العلامات المكتوبة، حتى أعلن في عام 1822 تمكنه من فك رموز اللغة المصرية القديمة.
يومئذ فقط بدأت الخطوة الأولى لعلم المصريات، والكشف عن أسرار واحدة من أعظم الحضارات، ليفهم المصريون معنى تلك النقوش على جدران معابدهم وفي أوراق البردي وداخل مقابر أجدادهم، وتنكشف للعالم ملفات التاريخ الفرعوني التي أحيطت بسياج من الألغاز بسبب حاجز اللغة.
مطالبات بعودته
وطالبت مصر مرارا بعودة آثارها المعروضة في الخارج، وعلى رأسها رأس نفرتيتي المعروض في متحف برلين وحجر رشيد المعروض في المتحف البريطاني، ويعدّ اليوم من أكثر المعروضات شعبية وأهمية في المتحف الواقع بلندن.
وفي تصريحات لجريدة أخبار اليوم، يكشف الدكتور عبد الرحيم ريحان، مدير عام البحوث والدراسات الأثرية بوزارة السياحة والآثار، عن أن المطالبات بعودة حجر رشيد تقابل بالرفض، وتسوّغها الصحف البريطانية بأن المتحف البريطانى يضطلع بدور مهم كمستودع للإنجازات الثقافية للجنس البشري، وأن إعادة الحجر إلى مصر ستفتح الباب أمام فيضان من المطالبات المماثلة التي من شأنها أن تفرغ قاعات العرض في المتحف، إلى جانب المخاوف من أن تكون القطع الأثرية التي لا تقدر بثمن عرضة لخطر التلف في المتاحف المصرية حال عودتها، وهي “كلها حجج غير منطقية وغير مقبولة”، على حد وصفه.
ونشر موقع “إيفننغ ستاندرد” البريطاني العام الماضي تصريحات للطيب عباس -مساعد وزير السياحة والآثار للشؤون الأثرية بالمتحف المصري الكبير- قال فيها “لو سنتحدث بجدّية، هذه الأثار لن تعود إلى مصر أبدا.. ولكن وجودها في برلين أو لندن في المتحف البريطاني يمثل دعاية جيدة لمصر”.
رفض إعارة الحجر
وفي عام 2009 وافقت مصر على التنازل عن مطالبة المتحف البريطاني بإعادة حجر رشيد إلى مصر في حالة موافقة المتحف على السماح بإعارته لعرضه بضعة شهور في مصر، لا سيما في افتتاح المتحف المصري الكبير.
وصرّح عالم المصريات زاهي حواس، رئيس المجلس الأعلى للآثار حينئذ، أنه كتب لعدد من المتاحف الأوروبية يطلب استعارة بعض الآثار المصرية لعرضها، ولكن الردود التي تلقاها لم تكن جيدة، وأن المسؤولين عن هذه المتاحف طرحوا تساؤلات تتعلق بضمانات عودة تلك التحف إليهم.
وأضاف حواس -في تصريحات صحفية- “إننا لسنا من قراصنة البحر الكاريبي، بل من بلد متحضر، وإذا وقعت على شيء فسألتزم به”، حسب تعبيره.
اتفاقية 1970
وفي عام 1970 أقرّت الأمم المتحدة اتفاقية اليونسكو لمكافحة الاتجار غير المشروع بالتحف الفنية والمنظم لآلية عودة القطع الفنية التي تم الحصول عليها بوسائل غير شرعية إلى بلادها الأصلية.
ويقول خبراء آثار مصريون إن دول أوروبا تتخذ هذه الاتفاقية حجة في رفضها لمسعى مصر لاسترداد آثارها بفرنسا إذ لا تشمل الاتفاقية العمليات التي تمت قبل عام 1970، لذلك تطالب القاهرة بتعديل هذه الاتفاقية التي تهدر حق مصر فى استرداد آثارها.
علاء عبد الرازق – الجزيرة