عن دور الألمان في بناء القوة الصهيونية

ربما يظن كثيرون أنّ دعم ألمانيا لكيان العدو حديث العهد، أو ينحصر في الجانب العسكري والسياسي فقط. قرأنا عن دعم برلين للكيان خلال حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في غزة، والشعب اللبناني خلال عدوان الـ 66 يوماً، ولكن هناك محطات من تاريخ العلاقة بين تل أبيب وبرلين ينبغي أن تُعرَف، لفهم خلفيات عقدة الذنب التي يُظهِرها المسؤولون الألمان كل مدة عند التعليق عن أمن الكيان ودعمه. تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية مهم لتشريح هذه الخلفية، ولأخذ فكرة عن حجم الشراكة والتواطؤ الألمانيَين في بناء اقتصاد الكيان وقوته عبر العقود الماضية.

27 أيلول عام 1951، يصعد المستشار الألماني كونراد أديناور إلى المنبر في البرلمان الاتحادي الألماني ليخاطب النواب والشعب ويهود العالم قائلاً: «… لقد ارتُكبت جرائم لا توصف باسم الشعب الألماني، وخرجت مطالب بتعويض أخلاقي ومادي، سواء في ما يتعلق بالأذى الفردي الذي لحق باليهود أو بالممتلكات اليهودية التي لا يزال لا يوجد مطالبون فرديون شرعيون بها… الحكومة الفيدرالية مستعدة، بالاشتراك مع ممثلي اليهود ودولة إسرائيل، التي استوعبت عدداً من الهاربين اليهود المشرَّدين، لإيجاد حل لمشكلة التعويض المادي، وبالتالي تسهيل الطريق إلى التسوية الروحية للمعاناة اللانهائية».

مثّل إعلان أديناور، زعيم حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي، النقطة التي انطلق منها حراك حكومة الكيان الصهيوني والمنظّمات اليهودية العالمية، لبحث ما يمكن أن يحصّلوه من تعويضات من حكومة ألمانيا الغربية، بمعزل عن الألمان الشرقيين. ورغم ما يُنقَل عن ناحوم غولدمان، رئيس الوكالة اليهودية آنذاك، الذي كان له الدور الأساسي في ترتيب مفاوضات التعويضات، أنّه مع تعافي اقتصاد ألمانيا الغربية، ومع تنامي أهميتها الإستراتيجية بالنسبة إلى الغرب بسبب الحرب الباردة، كانت حاجتها إلى التصالح مع اليهود ستتراجع. بالإضافة إلى ذلك، كان غولدمان يرى أنّ المفاوضات التفصيلية القانونية كانت ستمنح الحكومة الألمانية فرصة لتأخير «تسوية حقيقية».

لكن هذه الهواجس لم تكن واقعية، بالنظر إلى التوجهات لدى ورثة النازية في غرب ألمانيا، المحكومين بالنفوذ الأميركي بشكل أساسي. فهم كانوا على استعداد لفعل ما يمكن أن يخدم مآرب الاستعمار الغربي بتعزيز «شرعية إسرائيل». كما يورد المؤرخ اليهودي رونالد زويغ في كتابه «التعويضات الألمانية والعالم اليهودي»، استعملت حكومة العدو إعلان كونراد أديناور كأداة لتجيير اعتراف عدد من المنظمات اليهودية حول العالم بشرعية «إسرائيل» كممثّل لمصالح اليهود في العالم، بعد أن كان بعض هذه المنظّمات ينافس كيان العدو في شرعية تمثيل اليهود، استناداً إلى رفض كتل يهودية فرّت من ألمانيا النازية الهجرة إلى كيان العدو.

بعد نجاح الوكالة اليهودية، بطلب من حكومة العدو، بجمع 22 منظمة يهودية (ما عدا تلك التي كانت في المعسكر الشرقي)، انعقد «مؤتمر المطالبات» في 25 تشرين الأول 1951 في فندق «والدورف أستوريا» بمدينة نيويورك. في حين أنّ المنظّمات أعطت دعمها الكامل لأولوية مطالبة إسرائيل العالمية ضد ألمانيا، إلا أنّها لم تكن تنوي أن تكون متفرجة مطيعة في المفاوضات، وهذا ما ظهر في آراء ممثلي بعض تلك المنظمات، حيث دعا بعضها إلى رفض العرض الألماني والذهاب إلى خيار المقاضاة الدولية لانتزاع التعويضات المادية انتزاعاً، دون أن يكون هناك حرج بتقديم «صك غفران أخلاقي» للألمان، وبعض المنظّمات الأميركية رأى أنّه من الأفضل الاعتماد على الضغط الأميركي الذي كان يحكم الشطر الغربي من ألمانيا، لإجبارهم على الدفع دون التوصّل إلى اتفاق مباشر. كان الإجماع في الاجتماع أنّ المفاوضات بشأن المطالبات المادية لا يمكن أن تخفف من الديون الأخلاقية لألمانيا، وأنّ المطالبات المادية فقط هي التي يمكن مناقشتها معها. وقد تم التعبير عن هذا الرأي في بيان عام صدر بعد الاجتماع جاء فيه: «إنّ الجرائم التي ارتكبتها ألمانيا النازية ضد اليهود بهذا الحجم والطبيعة لا يمكن تكفيرها بأي قدر من التعويضات المادية… [ولكن] كل مبدأ أساسي من مبادئ العدالة واللياقة الإنسانية يتطلب من الشعب الألماني، على الأقل، إعادة الممتلكات اليهودية المنهوبة، وتعويض ضحايا الاضطهاد وورثتهم وخلفائهم، ودفع تكاليف إعادة التأهيل للناجين».

في 10 أيلول 1952 وُقّع في لوكسمبورغ اتفاق تأسيس «صندوق التعويضات» بين حكومة ألمانيا الغربية ممثلة بالمستشار كونراد أديناور من جهة، وموشي شاريت وزير خارجية كيان العدو ممثلاً عن الكيان والمنظّمات اليهودية حول العالم. دخل الاتفاق حيز التنفيذ في آذار 1953 وبدأ مشوار ألمانيا المذل في دفع «تعويض ضحايا الاضطهاد وورثتهم وخلفائهم»، الذي لا يزال قائماً حتى الآن. بموجب الاتفاق، حصل كيان العدو على حصة كبيرة من أموال التعويضات الألمانية التي بلغت 115 مليار مارك ألماني. في السنوات الأولى من الاتفاق (1952-1960)، تلقى الكيان حوالى 200 مليون مارك سنوياً. ثم تراجع هذا المبلغ تدريجياً ليصل إلى 100-150 مليون مارك سنوياً في الستينيات. إجمالي ما حصل عليه الكيان في المدة بين 1953 و1965 تجاوز الـ 3 مليارات مارك ألماني. أما بالنسبة إلى «مؤتمر مطالبات اليهود»، الذي كان مسؤولاً عن توزيع الأموال على اليهود في الشتات، فقد حصل على 15% من المبلغ الإجمالي. كانت الحصص السنوية لهذا المؤتمر تراوح بين 50 إلى 75 مليون مارك سنوياً خلال المدة نفسها، وقد استفادت منها مجتمعات يهودية في أوروبا وأميركا الشمالية، ودول أخرى.

بعد عام 1965، استمرّت الحكومة الألمانية الغربية بدفع المزيد من المبالغ للكيان وللمنظمات اليهودية حول العالم. تشير بعض المصادر إلى أنه حتى منتصف التسعينيات، بلغت قيمة التعويضات التي تلقاها كيان العدو من ألمانيا حوالى 60 مليار دولار. بحسب ما يرد في الموقع الإلكتروني الرسمي لـ«المؤتمر الخاص بالمطالبات المادية اليهودية ضد ألمانيا»، دفعت برلين حتى اليوم ما يتجاوز 90 مليار دولار كـ«تعويضات للأفراد عن المعاناة والخسائر الناجمة عن الاضطهاد من قبل النازيين». لقد كان هذا التدفّق من السيولة الأجنبية حاسماً في توفير مصاريف للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة للإنفاق على الرعاية الاجتماعية وتحريك عجلة الاقتصاد، خاصة تمويل مشاريع البنية الأساسية الكبرى، مثل مشروع «الناقل الوطني للمياه»، وبناء مئات المصانع. يقدّر الاقتصادي الصهيوني يورام غاباي أنّه في السنوات الأولى، كان حجم الأموال التي دخلت الكيان كل عام عبر اتفاقية التعويضات يعادل عائدات صادرات الكيان السنوية، ولولا أموال التعويضات كان من الممكن أن يتأخر النمو المتسارع الذي شهدته تل أبيب لاحقاً في الستينيات.

بين عامَي 1953 و 1963، موّلت التعويضات الألمانية حوالى ثلث الاستثمار في قطاع الكهرباء في كيان العدو، ما ساعده على مضاعفة قدرته ثلاث مرات. وكذلك مثّلت أموال التعويضات نحو نصف الاستثمار الإجمالي في السكك الحديد الإسرائيلية، والتي حصلت على محرّكات ومسارات ومعدات إشارات ألمانية الصنع بأموال التعويضات. كما تم استخدام التعويضات لشراء الآلات الألمانية الصنع لتطوير إمدادات المياه، وحفر النفط، ومعدات التعدين لاستخدامها في استخراج النحاس من مناجم النقب، والمعدات الثقيلة للزراعة والبناء، مثل الحصّادات والجرّارات والشاحنات. ذهب حوالى 30% من أموال التعويضات لشراء الوقود، بينما تم استخدام 17% من هذه الأموال لشراء السفن للأسطول التجاري الإسرائيلي، حيث تم شراء حوالى خمسين سفينة، بما في ذلك سفينتا ركاب، وبحلول عام 1961، شكّلت هذه السفن ثلثي الأسطول البحري التجاري الإسرائيلي. كما تم استخدام أموال التعويضات لتطوير الموانئ، حيث تمكّن ميناء حيفا من الحصول على رافعات جديدة. في كتابه «المليون السابع: الإسرائيليون والهولوكوست»، أورد المؤرخ الصهيوني توم سيغيف تقريراً عن «بنك إسرائيل» ينسب فيه للتعويضات الألمانية ما قيمته 15% مساهمة في نمو الناتج المحلي الإجمالي للكيان بين 1953 و1965، وخلق أكثر من 45 ألف فرصة عمل خلال تلك المدة.

بحسب قاعدة بيانات مُنَح «المؤتمر الخاص بالمطالبات المادية اليهودية ضد ألمانيا»، جرى صرف 680,538,096 شيكلاً (حوالى 93 مليون دولار) داخل كيان العدو خلال عام 2024، 99.5% من المبلغ كان مصدره الحكومة الألمانية. لكن أحدث كشف مالي سلّمه المؤتمر (سُلّم في تشرين الثاني 2024) لوزارة الخزانة الأميركية، بلغ حجم تحويلاته إلى كيان العدو 494,321,370 دولاراً أميركياً، وهو رقم استهلك نصف ميزانية المنح السنوية المصروفة في كل دول العالم (977,582,783 دولاراً) من قبل المؤتمر خلال 2024. بحسب بيانات الكشف المالي الأحدث (حزيران 2023 – حزيران 2024) تقاضى غريغوري شنايدر، أعلى موظف في مؤتمر المطالبات، 994,000 دولار كأجرة سنوية.

في 4 تشرين الثاني 2013 صدر حكم بالسجن لمدة 8 سنوات على سيمين دومنيتسر، الرئيس الأسبق لمؤتمر المطالبات بين 1999 و2010، وذلك لإدارته لحوالى 10 سنوات عملية اختلاس مالي قُدِّرت بحوالى 57 مليون دولار، عبر تقديم أوراق ثبوتية لآلاف الأشخاص الوهميين بادعاء أنّهم يهود ناجون من المحرقة. لم تجرؤ حكومة أنجيلا ميركل آنذاك على إثارة أزمة حول الطريقة التي تُصرف فيها الأموال التي يضخّونها في صندوق مؤتمر المطالبات، بل اكتفت بإجراء تحقيق داخل ألمانيا، علماً بأن الاختلاس وقع في أميركا، ولاحقاً قررت زيادة قيمة الميزانية السنوية المخصصة للتعويضات. في نيسان 2024، أعلنت وزارة المالية الألمانية أن برلين ستقدّم دفعة لمرة واحدة بقيمة 236 دولاراً (220 يورو) للناجين من الهولوكوست، لمساعدتهم على التعامل مع آثار هجمات 7 أكتوبر 2023. صرفت حكومة شولتز 25 مليون يورو إضافية لـ 113 ألف ناجٍ من الهولوكوست في كيان العدو، في تأكيد على اعتبار ألمانيا نفسها ملزمة بالصرف إلى ما لا نهاية ولأسباب لا علاقة لها بممارسة النازيين ضد اليهود خلال حكم أدولف هتلر.

علي حسن مراد – الاخبار