فكت ميساء شعرها الطويل الناعم أمام جارتها التي جاءت لزيارتها في الخيمة على شاطئ بحر خان يونس، ونظرت إليها نظرة ذات معنى، ولم تقل أي كلمة، وفهمت جارتها ما تعنيه، فأمسكت بمقص كانت تخفيه في حقيبة جلدية مهترئة، وبدأت قص شعرها بينما تخفي ميساء دمعة سالت خلسة من عينيها، وبعد أن انتهت جارتها من عملها، نظرت في اتجاه طفلتها ولم تتكلم أيضاً، وقامت جارتها بالفعل ذاته، فقصت شعر الطفلة حتى أصبح قصيراً جداً يشبه شعر الأولاد، لكنها لم تبق صامتة، إنما لفتت نظر ميساء إلى وجود حشرة القمل بكثرة في رأس الصغيرة، وأردفت قائلة، في محاولة للمواساة: “لقد كان خياراً موفقاً قص شعرك وشعر طفلتك”، ثم أضافت بحزن: “لقد فعلت ذلك لنفسي ولكثيرات حولنا في مخيم النزوح هذا.”
تلفتت ميساء حولها بعد أن قامت بإعادة غطاء الرأس جيداً، فرأت طفلها الذي يبلغ من العمر عدة أشهر قد بدأ يتململ في نومه، وهي لم تفلح في تنويمه سوى منذ أقل من نصف ساعة، وكانت تعرف جيداً أنه لن يستمر في النوم بسبب تعرضه للدغ حشرات كثيرة وغريبة تغزو الخيمة، ولا توجد وسيلة لمنعها أو مكافحتها، فهذه الحشرات أصبحت ضيفاً ثقيلاً يدخل بلا دعوة أو موعد خيام النازحين وسط المخيمات المكتظة، والتي يجرى تقسيمها وإطلاق بعض الأسماء عليها لتسهيل توصيل بعض المساعدات إلى قاطنيها، وكذلك من أجل الوصول إلى إحصاءات دقيقة نوعاً ما عن عدد النازحين في كل تجمُّع، وغالباً ما تكون هذه التجمعات قد حدثت بناء على صلة القرابة والجيرة وتوقيت النزوح من المكان قبل الأخير، فبعضهم نزح من قرى خان يونس الشرقية، وبعضهم الآخر نزح من مدينة رفح، وقدامى النازحين هم الذين نزحوا من غزة وشمالها منذ بداية الحرب.
فكرت ميساء في طريقة لتنظيف جسم طفلها وتحميمه، لكنها تراجعت عن الفكرة، إذ لا يوجد أي نوع من أنواع سوائل الاستحمام المخصصة للصغار أو حتى الكبار “الشامبو”، ولذلك، هزت رأسها وكأنها تطرد الفكرة، لكن ذلك لم يمنعها من إحضار بعض الماء الذي قام زوجها بتسخينه فوق النار التي يشعلها أمام الخيمة من بعض الورق والكرتون، وقررت أن يحصل طفلها الذي بدأ يبكي على حمام لا يزيد على بعض الماء الذي لن يكون نظيفاً في كل حال، فالمهم أن يتوقف الطفل عن البكاء قليلاً. وهو يبكي لأنه لا يقوى على حك جلده الذي تحول إلى اللون الأحمر، وعلته البثور ذات المنظر المقزز، والتي سرعان ما امتلأت بسائل أبيض، وبدأ صراخه يزداد، وحين توجهت إلى العيادة الطبية الميدانية القريبة التي أقيمت على عجل قرب مخيمهم بدعم من إحدى المنظمات الإنسانية، كانت الإجابة أن الأدوية والكريمات والمراهم غير متوافرة لهذه الحالة، وأردفت الممرضة، التي يبدو على وجهها الإرهاق وسوء التغذية، قائلة: “ليس أمامك سوى أن تذهبي به إلى البحر، فماء البحر المالح هو الحل الوحيد لعلاج هذه الأمراض الجلدية.”
لكن لم تذهب ميساء إلى البحر، وحملت طفلها وعادت به إلى الخيمة، وفكرت قليلاً، ثم أسندت رأسها إلى القائم الخشبي للخيمة، وترقرقت الدموع في عينيها وهي تتذكر حمام بيتها الذي فرت منه، والذي قُصف لاحقاً، إذ كان فيه رف خاص بكل أنواع النظافة الشخصية ومستلزماتها؛ من شامبو، وسائل استحمام، ومعطرات للجسم. ثم سحبت نفساً طويلاً وكأنها تحاول أن تسترجع رائحة سائل استحمامها الخاص الذي كان يعجب زوجها ويطلب منها ألاّ تغيره، وحين سحبت ذلك النفس، فاحت رائحة العرق من ملابسها، فلم تتمالك نفسها، وأجهشت بالبكاء، وركلت بقدمها وسادة بالية فأوصلتها إلى مدخل الخيمة.
تجهش ميساء بالبكاء كل ليلة وهي تسمع صوت القصف من بعيد، وتحتضن طفليها، وتحسس على رأس طفلتها التي أصبحت بلا شعر تقريباً، لكن ذلك لم يمنع تكاثر الحشرات فيه، الأمر الذي أوجد لها مهمة جديدة، إذ تجلس كل يوم وتقوم بتفتيش خصلات شعر الطفلة القصيرة، شعرة تلة أُخرى، وتبحث عن تلك الحشرات، وتقوم بالتقاطها بين طرفَي إبهامها وسبابتها، وتلقي بها في موقد النار المشتعل بالقرب منها، وقد أخفقت أيضاً في الحصول على شامبو أو أي مستحضر لعلاج حشرات الشعر من العيادة الطبية، وكانت الإجابة الجاهزة في كل مرة أن لا أدوية أو أي مواد تنظيف تدخل غزة في ظل الحرب والحصار المستمرَين منذ عشرة أشهر.
“عشرة أشهر”، هكذا حدّثت ميساء نفسها وهي تنظر إلى الخيمة تارة، وتجيل نظرها في أرجائها وتنظر إلى كفَي يديها المشققتين تارة أُخرى، وإلى كعبَي قدميها اللتين تشققتا بصورة مقززة إلى أن بدأ الدم ينزف منهما ثم يتجمد، ويغلق الشقوق، وذلك لأنها تمضي وقتها وهي تجلس على الرمل الخشن، وكثيراً ما تقوم بالسير لمسافات بعيدة للحصول على الماء، ويرتطم كعبا قدميها بالأرض وما عليها من قاذورات وحصى وبقايا الحرائق، لأنها ببساطة تنتعل خفّاً منزلياً أضيق من مقاسها، وهو ما استطاعت الحصول عليه من السوق بعد أن تمزق حذاؤها الوحيد تماماً، وابتاعته بثمن مرتفع أيضاً قياساً بسعره المعتاد في الأيام العادية.
“الأيام العادية”، رددت ميساء هاتين الكلمتين، وهزت رأسها في سخرية وأسى، وهمست في نفسها: “ليتها بقيت تلك الأيام العادية”، وجالت في مخيلتها صورة مرآتها وما كانت تضعه أمامها من قوارير عطر وكريمات وبعض أدوات الماكياج، التي كانت، مع رخص ثمنها، تُشعرها بأنوثتها، أمّا اليوم، فهي لا تشم إلاّ رائحة العرق ودخان الحطب، ولا تغسل وجهها وجسمها إلاّ بالماء فقط.
ضغطت ميساء، ذات الـ 28 عاماً، على شفتها السفلى حتى كادت تدميها، وهي تفكر كم هي الحياة قاسية في الخيام، وأنها قاسية أكثر على النساء اللواتي يحاولن أن يكنَّ قويات من أجل أطفالهن وأزواجهن، لكنها في قرارة نفسها اعترفت بأنها ضعيفة، وأنها غير قادرة على الاستمرار، أو أن تبقى متظاهرة بالقوة، وتذكرت كم مرة استخدمت فيها أدوات حماية رديئة، وما سببته لها من مشكلات حين زارتها دورتها الشهرية، وتذكرت أنها لا تستطيع أن تختلي بنفسها ولو لدقائق كي تزيل الشعر الزائد الذي نبت على ساقيها، حتى أصبحت تخجل من أن تمدهما أمام عينَي زوجها.
عند هذا الحد، وجدت ميساء أن الحياة في الخيام بالنسبة إلى النساء هي صورة من صور الجحيم، حيث يفقد الجميع إنسانيتهم، لكن النساء يفقدن أيضاً إحساسهن بأنوثتهن، ويشعرن بأنهن آلات تدور كل يوم، كحال الرجال، بحثاً عن الماء وإشعال الحطب وإعداد الخبز وقليل من الطعام.
حكّت ميساء رأسها وهزته متوقعة أن تشعر بضفيرتها تهتز على ظهرها، لكنها تذكرت أن شعرها الذي كانت تحبه وتعتني به أصبح قصيراً، ولم تعد قادرة على تنظيفه وغسله حتى بعد أن أصبح طوله لا يزيد على بضعة سنتيمترات بعيداً عن فروة رأسها، ولذلك، فقد توقفت عندها عن فعل أي شيء، وحملقت في السماء الملبدة برائحة الموت، وسرحت في البيت الذي كان، ولم تفق إلاّ على صوت زوجها الذي يحثها على الإسراع بقدر العدس لتضعه فوق النار ليكون وجبة طعام رئيسية وحيدة لهذا اليوم الذي يشبه كل الأيام.
سما حسن – مؤسسة الدراسات الفلسطينية