يُعد البحث العلمي أحد أهم مقومات النهضة الشاملة التي تحققُ للدولِ التقدمَ والازدهارَ، وهناك عدة دول لها تجارب واسعة ومهمة في تطوير منظومة وبنيَة البحث العلمي. البحث العلمي الذي يعد أحد أهم مخرجات العملية التعليمية، وإحدى أهم وسائل الحفاظ على هوية الدولة العلمية والثقافية.
من أهم الدول التي تعمل بكفاءة على تطوير منظومة البحث العلمي باستمرار هي الهند. منذ قديم الزمان والهند مُلاحقَة بالعديد من التهمِ والأباطيلِ المُبهمَة التي لا جدوى منها مثل: الهند أفقر دولة، الهند تحت خط الفقر، الهند بلا اقتصاد، وغيرها. فتلك عبارات وشعارات كانت تلاحقُها منذ نشأتها وحتى عقود ليست بالبعيدة. إلا أن الهند لها تجربة فريدة في النهضة والتنمية عن طريق عدة عوامل ومقومات كثيرة والتي من أهمها البحث العلمي. بالرغم من أن الهند تحتل نحو 10% من إجمالي الإنفاق على البحث العلمي والتطوير في آسيا، وزاد عدد المنشورات العلمية الهندية في العقد الماضي بنسبة 50%، فإنها لا تمتلك إلا 140 باحثاً من كل مليون نسمة، مقارنةً بـ4651 في الولايات المتحدة.
في أحد لقاءات أول رئيس وزراء هندي جواهر لال نهرو عَمدَ أحد الصحفيين إلى سؤاله سؤالاً مُحرِجاً بشأن إنشاء المعاهد الهندية للتكنولوجيا Indian Institutes of Technology وهي معاهد من أجل دعم وتطوير العملية البحثية والتعليمية الهندية، افتُتح أول معهد منهم في 18 آب/أغسطس 1951 في ولاية البنغال الغربية الهندية.. سأله: كيف لنا أن ننشئ معهداً لدعم التكنولوجيا ونحن فقراء؟ فرد عليه معللاً: “نحن فقراء لأننا لم نكنْ نمتلك المعهد الهندي للتكنولوجيا”. فيمكن لأي دولة استناداً على تجربة الهند أن تحاربَ الفقرَ والتخلفَ الفكري العام للدولة ذاتها بالبحث العلمي. اليوم يُعد المعهد الهندي للتكنولوجيا أحد أهم المعاهد على مستوى العالم في التكنولوجيا والتقنية.
وتعد نواتج ومخرجات تجربة الهند في تطوير ودعم البحث العلمي والعملية التعليمية نواتج رائدة وفريدة من نوعها، إذ تُعتبر الهند ثاني أكبر مصدر للبرمجيات على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، ويتم فيها تطوير 40% تقريباً من البرمجيات المستخدمة في الهواتف الخلوية على مستوى العالم. وتعتبر الهند المُصَدر الأساسي للمبرمجين ومهندسي الحاسوب فقد عينت شركة جوجل الهندي سوندار بيشاي رئيساً تنفيذياً للشركة في عام 2019، وتقدر قيمة صادرات الهند من قطاع التكنولوجيا وبالأخص تكنولوجيا المعلومات والتقنية بحوالي 70 مليار دولار أمريكي سنوياً، وهي تمثل حوالي 7% من إجمالي ناتج الدخل القومي للبلاد.
مرت الهند بفترات ومراحل متتالية في تطوير منظومة البحث العلمي، ففي الفترة من 1947 إلى 1967 هدف نهرو إلى تحويل الهند اقتصادياً إلى دولة عصرية مما يجعلها مناسبة للعصر النووي، وهنا أدركَ نهرو أن الهند لم تكنْ في طليعة الثورة الصناعية التي تتماشى مع الهدف الهندي النووي لذا بذلَ الجهد المطلوب للوصول بالهند إلى أعلى مراتب التمييز العلمي والتكنولوجي عن طريق إنشاء المعاهد الهندية للتكنولوجيا.
وكان التعليم المُقدم هناك في تلك الفترة مجانياً إلزامياً حتى سن الرابعة عشرة ليضمن بذلك دفع عجلة التنمية من خلال تصدير متعلمين على كفاءة عالية عن طريق التعليم الأساسي، فلا سبيل لدفع عجلة التقدم والازدهار إلا عن طريق تعليم الناشئ تعليماً سليماً يضمن به تواجد عقلية عصرية نابغة قادرة على مواكبة العصر والتقدم التكنولوجي بالتزامن مع إنشاء المعاهد الهندية للتكنولوجيا، فلو كان تعليم النشء تعليماً سيئاً لم يضمنْ بذلك إعداد كوادر قادرة على مواكبة التقدم الحادث إثر نشأة تلك المعاهد. في هذه الأثناء أيضاً افتتحَ وزير التعليم آنذاك آزاد المعهد الهندي للتكنولوجيا في ولاية البنغال الغربية في 18 آب/أغسطس 1951 وكان أول المعاهد الهندية للتكنولوجيا. تَبِعَ ذلك تعاونٌ بين حكومة الهند والاتحاد السوفييتي وكان تعاوناً مُثمِراً في المجال العسكري حيث عَمِلَ ذلك التعاون على تطوير بيئة تكنولوجية عسكرية بين الطرفين تبعها تبادل لأجهزة الكومبيوتر والتي كانت تُصدر من قِبل الاتحاد السوفييتي للهند للعمل بها في المعامل والمختبرات ومعاهد البحوث.
بعد ذلك وفي الفترة من 1967 إلى 1987 كان حلم امتلاك التكنولوجيا النووية يراود الحكومة الهندية، ودعمت محطة الطاقة الذرية الكندية (مفاعلات كاندو) ذلك الحلم، بمفاعل تارابور الهندي، ولكن في هذه الأثناء نشطت حركة غاندي السلمية فأدت إلى تأخر حلم التكنولوجيا النووية الهندية.
ومنذ عام 1987 استفادت الزراعة الهندية من التطورات في مجال التكنولوجيا الحيوية، حيث أُنشئت إدارة مستقلة تحت إشراف وزارة العلوم والتكنولوجيا، ولاقت دعماً معنوياً ومادياً من القطاعين الخاص والحكومي، وعملت الحكومة على تقديم الخصم الضريبي على البحث والتطوير في التكنولوجيا الحيوية، وبالأخص في مجال الزراعة.
خضعَ النظام الاقتصادي الهندي لسلسلة متتالية من التطورات والإصلاحات منذ عام 1991، مما أدى إلى إحداث التكامل الاقتصادي الدولي حيث ارتفعَ النمو الاقتصادي إلى 6% سنوياً ما بين عامي 1993-2002. وحدثَ التعاون العلمي والتكنولوجي بين الهند والاتحاد الأوروبي حين وافق كلاهما على ذلك في 25 حزيران/يونيو 2002، حيث تشكلت مجموعة من العلماء بين الثنائي لدعم ومواكبة التطور التكنولوجي عند كِلا الطرفين حيث تحمل الهند صفة “مراقب” في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية في حين تتم المشاركة بين الهند والاتحاد في مجالي التطوير والتعليم في بنغالور. وتعتبر بنغالور ثالث ثلاثة ممن تزدهر وتفتخر بهم الهند من التطور التكنولوجي والعلمي الهائل حيث يوجد فيها معامل ومعاهد بحوث التكنولوجيا الحيوية، والفضاء، والعلوم النووية، وتكنولوجيا التصنيع، وعلوم الحاسوب، وغيرها، لذاك تُعدُ بنغالور عاصمة الهند التكنولوجية. وأما عن باقي الثلاثة فهي حيدر أباد وتشيناي، وتُعتبر بنغالور وحيدر أباد وتشيناي المثلث الذهب الهندي الذي ترتكز معظم المعاهد الهندية للتكنولوجيا والتقنية عليه، وهي بذلك العمود الفقري للتكنولوجيا الهندية.
بعد ذلك وبحلول عام 2017 أصبحت الهند عضواً منتسباً في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية ومقرها الرئيسي فرنسا. تُعد أبحاث تكنولوجيا الاتصال من أهم المشاريع العلمية الهندية حيث تمثل حوالي 8% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، وحوالي 25% من صادراتها من البضائع، ووفرَ قطاع تكنولوجيا المعلومات لحوالي 2.8 مليون شخصٍ فرصَ عمل مباشرة، مما يؤدي إلى اعتبار أن قطاع تكنولوجيا المعلومات هو أساس النمو الاقتصادي للبلاد في الأعوام القليلة الماضية.
في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 تم إطلاق بعثة المريخ الهندية والتي تُسمى “Mangalyaan” من قِبل منظمة بحوث الفضاء الهندية (ISRO) مما يجعلها رابع وكالة فضاء تصل إلى المريخ بعد برنامج الفضاء السوفييتي، ووكالة الفضاء الأوروبية، وناسا.
تتخذُ منظمة بحوث الفضاء الهندية (ISRO) من مدينة بنغالور مقراً رئيسياً لها حيث تتمثل رؤيتها في تسخير تكنولوجيا الفضاء في التنمية الوطنية مع متابعة أبحاث علوم الفضاء واستكشاف الكواكب. تأسست اللجنة الوطنية لعلوم الفضاء (إنكوسبر) خلال عهد أول رئيس وزراء هندي نهرو تحت إشراف وزارة الطاقة النووية الهندية سنة 1962 بناء على دعوة العالم الفلكي (فيكرام سارابهاي) الذي أدرك أهمية أبحاث الفضاء ومدى أهمية دورها في تحقيق رغبة نهرو في التطور الهندي التكنولوجي.
نمت لجنة (إنكوسبر) لتصبح لجنة (إسرو) في عام 1969 أيضاً تحت إشراف وزارة الطاقة النووية الهندية (دي إيه إي). في عام 1972 أنشأت الحكومة الهندية لجنة قيادية لقيادة ومتابعة أعمال أبحاث الفضاء وسمتها لجنة (دي أوه سي) وأوكلتها مهمة الإشراف على عمليات وكالة الفضاء الهندية (إسرو). تبلغ ميزانية (إسرو) طبقاً لإحصائيات عام 2013-2014 حوالي 950 مليون دولار أمريكي.
وأخيراً.. نحن كعرب نمتلك من الثروة البشرية أعظمها وأكبرها، ومن العلم أفضله، ولكن هي مسألة مبدأ، مبدأ الإيمان بأهمية العلم والبحث العلمي. لدينا من الثروة البشرية ما يكفي لصناعة العلم والتقدم العلمي والتكنولوجي، ولكن إلى متى نظل نرفعُ الشعارات؟ فالشعارات لا تكفي، بل وليس لها أدنى أهمية! علينا أن ندرك حجم التطور الذي تصل إليه الدول المتقدمة المبني على العلم والبحث العلمي، ولك في تجربة الهند خير دليل، بالعلم تنهض الأمم، وبه تدمر أيضاً، فلنرَ ولنعتبر من تجارب المحتلين للدول المختلفة، الذين شرعوا بهدم التعليم أولاً وبعد ذلك تمكنوا من السيطرة على كل شيء! ويقول نيلسون مانديلا: “التعليم هو أقوى سلاح يمكنك تغيير العالم به”، فبالتعليم تنهضُ الأمم وتتقدمُ الشعوب وتُبنى الحضارات.
ليس مجرد شعارات تُحفّظُ للنشء بل هي واقع! وعلينا أن ندرك موقعنا بالنسبة للدول المتقدمة، فعند ذلك ندرك أهمية العلم والبحث العلمي في تقدم الأمم. فلن نُرى ولن نَخرجَ للنور إلا بعد أن نتبع نور العلم والبحث العلمي، وندرك مدى أهميته في تطوير منظومات الدولة المختلفة، ودوره الفعّال في زيادة الدخل القومي، وإعداد الكوادر الشبابية الفعّالة والمؤثرة في المجتمع لكي نُصدرَ للعالَم كوادر نفتخر بهم كما كنا نفتخر من قبل بأجدادنا العرب ودورهم في خدمة العلم والمجتمع.
متولي حمزة – عربي بوست