استهداف “جيل Z”: عوامل تصاعد الخلافات بين “فيسبوك” وناشري المحتوى الإخباري

في تصاعد للتوتر بين ناشري الأخبار وشركة “ميتا”، اتخذت الأخيرة عدة قرارات خلال الأسابيع الأخيرة توجت بها سياستها التي وضعتها تحت الاختبار لشهور بالابتعاد عن المحتوى الإخباري، وهو ما تسبب في قلق الناشرين الذين أخفقوا في تكرار تجربة أستراليا بفرض قوانين تُلزم الشركة بالدفع نظير النشر، إذ رد “فيسبوك” بحزم على إقرار قانون مشابه في كندا بمنع وصول المستخدمين في البلاد للأخبار، وهو القرار الذي أعقبه قرار بوقف خدمة “أخبار فيسبوك” في بريطانيا وألمانيا وفرنسا ابتداءً من مطلع ديسمبر المقبل، لتلحق بخدمة “المقالات الفورية” التي توقفت في إبريل الماضي.

وقد أثار ذلك تكهنات عدة بشأن تأثير تلك السياسات في صناعة الأخبار، وكذلك الحد من تداول المحتوى المزيف، فضلاً عن أسباب قرارات “فيسبوك” الذي لم يخف سعيه الجاد نحو المحتوى المرئي الأكثر خفة في محاولة لتجديد شباب المنصة التي تكافح لمجاراة “تيك توك” الأكثر شعبية بين الأصغر سناً.

علاقة جدلية:

انخفضت نسبة حركة الإحالة (الزيارات الواردة لموقع من موقع آخر) من “فيسبوك” إلى مواقع نشر المحتوى، من 18.7% عام 2015 إلى 5.7% عام 2023، وفقاً لمؤشر الإعلام الاجتماعي (SMI) الذي تصدره شركة (Echobox) البريطانية للبحث والتطوير. وهو التراجع الذي يُعزى في جانب كبير منه إلى تعديل طرق عمل خوارزميات التصنيف على الموقع، والتي أعلن تعديلها عدة مرات من الاعتماد على مؤشرات الإعجاب عام 2009، إلى الوقت المستغرق وأولوية الفيديو عام 2015، ثم أولوية المحتوى الذي ينتجه المستخدمون عام 2015، ثم التفاعلات الاجتماعية ذات المغزى عام 2018 والتي تعتمد على التفاعل الجماعي كمعيار أساسي لتحديد أولوية الظهور وهو ما تضمن الإعلان عن عرض محتوى إخباري أقل بنسبة 20%، وأخيراً تعديلاته في مايو 2023 المُستندة لتقنيات الذكاء الاصطناعي لـ”الاكتشاف الاجتماعي” وتعزيز التفاعل والمحتوى المرئي، وهو ما تسبب في انهيار حركة الإحالة إلى ناشري المحتوى من 10.7% إلى 7.3% خلال ثلاثة أشهر فقط من مارس إلى يوليو 2023 وفقاً لبيانات (SMI).

وسبق أن أعلن “فيسبوك” صراحة، في فبراير 2021، أن المستخدمين لا يزورونه للحصول على المحتوى السياسي الذي يمثل أقل من 3% من المحتوى الذي يتم استهلاكه عبر المنصة، وأن 7.5% فقط من جميع المنشورات التي تتم مشاهدتها في الولايات المتحدة تحتوي حتى على رابط، ما يجعل محتوى الناشرين أقل قيمة وتأثيراً. وقالت الشركة في الإعلان الذي صدر بعنوان “تقليل المحتوى السياسي”، إن أحد التعليقات الشائعة التي نسمعها هي أن الأشخاص لا يريدون أن يسيطر المحتوى السياسي على آخر الأخبار لديهم، وسنعمل على فهم تفضيلات الأشخاص المتنوعة للمحتوى السياسي بشكل أفضل”. كما أعاد “فيسبوك” تأكيد ذلك بتقرير نشره في مارس 2023 قال فيه إن “المحتوى الإخباري من الناشرين التقليديين ذو قيمة منخفضة ومتراجعة”، وإن نسبة البالغين الذين يستخدمون “فيسبوك” للحصول على الأخبار انخفضت بنحو الثُلث بين عامي 2016 و2022 من 45% إلى 30%، فيما يفضل 13% فقط من البالغين في الولايات المتحدة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على الأخبار.

في المقابل، يؤكد الناشرون حقهم في الحصول على تعويضات مادية نظير نشر المحتوى الذي ينتجونه، وأن محاولات “فيسبوك” التقليل من قيمة الأخبار أمر غير عادل وغير دقيق، وأن الناشرين يسهمون في تعزيز جودة المحتوى المتداول على “فيسبوك”، ويزيد مدة بقاء المستخدمين، بالإضافة إلى توفير مؤشرات تحليلية عالية الجودة بشأن اهتمامات المستخدمين ومن ثم استهدافهم إعلانياً، وكذلك استهداف شرائح ذات قدرة شرائية أفضل من صغار المستخدمين، فضلاً عن تأثير حظر الناشرين المرموقين في إتاحة الساحة أمام المعلومات المزيفة والمحتوى المضلل.

ولعل تلك الأسانيد كانت وراء إقرار قانون “مساومة الإعلام الإخباري” عام 2021 والذي شابته ضغوط متبادلة بحظر المنافذ الإخبارية على الشبكة وكذلك صفحات المستشفيات وخدمات الطوارئ والجمعيات الخيرية، ما تسبب في اتهام المنصة بتعمد إحداث الفوضى، وانتهى بعقد “جوجل” و”فيسبوك” صفقات مع كبار ناشري الأخبار ما بين عام إلى ثلاثة أعوام بنحو 190 مليون دولار. ويبدو أن ذلك لن يتكرر، إذ أعلنت “ميتا” في يوليو 2022 أنها “لن تدفع مجدداً للناشرين مقابل تشغيل المحتوى”، وأنها لن تجدد صفقات بقيمة 105 ملايين دولار عقدتها في الولايات المتحدة عام 2019 مع كبار ناشري الأخبار الأمريكيين بما في ذلك “وول ستريت جورنال” و”واشنطن بوست” و”نيويورك تايمز”، وهو ما أعقبه إعلانها وقف خدمة المقالات الفورية في إبريل 2023، ثم ما لبث أن اشتعل الخلاف في كندا بالموافقة على قانون يُجبر “فيسبوك” على الدفع نظير إعادة النشر، ما ترتب عليه منع ظهور المحتوى الإخباري لدى مستخدمي منصاتها في كندا في أغسطس الماضي والمُقدر عددهم بنحو 24 مليون مستخدم.

مجاراة “تيك توك”:

لا يمكن تجاهل المنافسة بين “ميتا” ومنصات الفيديو الأكثر شعبية بين الشباب، وعلى رأسها “تيك توك” و”سناب شات”، عند تحليل سياستها في الابتعاد عن الأخبار. إذ تشهد حصة “فيسبوك” بين الشباب الأقل من 25 عاماً، انخفاضاً ملحوظاً، مقابل ارتفاع حصص منصات الجيل الثاني من شبكات التواصل المرئي بين مستخدمي هذه الفئة، وهو ما دفع العملاق التكنولوجي منذ سنوات للاستحواذ على “إنستغرام”، ثم إدخال تعديلات متعاقبة على “فيسبوك” لتعزيز المحتوى البصري باستخدام أدوات البث المباشر وحفلات المشاهدة الجماعية وكذلك الفيديوهات القصيرة “ريلز” (Reels)، فيما اعتُبر محاكاة حرفية لسمات “تيك توك” الذي يمثل “جيل زد” الحصة الأعلى بين مستخدميه.

ووفقاً لإحصاءات عام 2023، تُمثل النساء الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً 20% من مستخدمي “تيك توك”، والذكور من نفسه الفئة 17.8%. وفي المقابل، تأتي الحصة الأعلى من مستخدمي “فيسبوك” للشريحة العمرية الأكبر 25 – 34 عاماً بنسبة 17.6% من الذكور، و12.3% من الإناث. كما توقع موقع (Insider Intelligence) للأبحاث الرقمية أن تصبح منصات “تيك توك” و”إنستغرام” و”سناب شات” الأعلى استخداماً بين “جيل زد” في الولايات المتحدة بحلول عام 2025 مع تراجع “فيسبوك” للمرتبة الرابعة، وهو ما يهدد هذه المنصة العالمية بالتراجع بين الجيل الأصغر سناً والتحول إلى ما يشبه البريد الإلكتروني “نفعي ولكنه ممل”، وذلك على حد وصف تقرير نشرته “وكالة أسوشيتد برس” في مايو 2023 والذي أشار أيضاً إلى اتباع “فيسبوك” خطة شاملة للتكيف مع احتياجات الشباب تقوم على توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي.

وعلى الرغم من أن صفحات وسائل الأخبار التقليدية تُمثل المصدر الأساسي للأخبار بالنسبة لمستخدمي “فيسبوك” مقابل اعتماد مستخدمي “تيك توك” و”سناب شات” و”إنستغرام” على حسابات المشاهير والمؤثرين، وفقاً لتقرير الأخبار الرقمية 2023 الذي يصدره “معهد رويترز للصحافة”، فإن تلك النتائج يبدو أنها تدفع “فيسبوك” لتأكيد قدرته على مجاراة الشباب الأصغر سناً باعتماد سياسات منح الأولوية للبث المباشر ومنشورات المشاهير، وعدم اكتراثه بحجب محتوى ناشري الأخبار، حتى إن صحيفة “الغارديان” البريطانية سخرت من قرارات سابقة له بحجب الأخبار في أستراليا في فبراير 2021، بالقول إن “فيسبوك” يحجب الأخبار لصالح المزيد من “ميمات القطط”.

وكشفت وثائق داخلية تم تقديمها إلى الكونغرس ونشرتها مواقع أمريكية في أكتوبر 2021، أن علماء البيانات في “فيسبوك” أعدوا تقريراً في مارس من نفس العام جاء فيه أن “معظم الشباب ينظرون إلى فيسبوك باعتباره مكاناً للأشخاص في الأربعينيات والخمسينيات من العمر، ويعتبرون المحتوى مملاً ومضللاً وسلبياً، وأن عدد مستخدميه من الشباب الذين تقل أعمارهم عن 18 عاما ًانخفض بنسبة 13% فيما تزيد نسبة التراجع إلى 26% في البلدان الخمسة الأولى بالتطبيق”.

مستقبل المحتوى السياسي:

على الرغم من تراجع أولوية المحتوى السياسي والإخباري بالنسبة لـ”فيسبوك”، لا يزال الموقع المصدر الأكبر لحركة الإحالة للمواقع الإخبارية، وهو ما دفعه إلى الرد بالحجب على قرار إلزامه بالدفع للناشرين في كندا، وذلك في تأكيد مباشر أن الموقع الذي تجاوز عدد مستخدميه حول العالم حاجز الثلاثة مليارات هو الأكثر أهمية، وأنهم هم الذين يستفيدون من الترويج لمحتواهم عبر منصاته. ولكن واقع الحال يشير إلى أن “فيسبوك” لا يرفض المحتوى الإخباري، ولكنه يرفض الدفع من أجله، إذ إنه يُدرك أن عليه الحفاظ على قاعدة مستخدميه الحاليين، إلى جانب اجتذاب شرائح إضافية من الفئات العمرية الأقل للحفاظ على استدامته واجتذاب مستخدمين ذوي سمات رقمية أفضل وأكثر جاذبية للمعلنين على منصات الإعلام الاجتماعي.

ولا يُعد “فيسبوك” المصدر الوحيد لزيارات المواقع الإخبارية العالمية، إذ تشير الإحصاءات إلى مزاحمته في تلك الشريحة من مقدمي المحتوى الأكثر جودة من قِبل منصة “إكس” (تويتر سابقاً)، إذ استحوذت على 29% من إجمالي زيارات الإحالة من مواقع التواصل الاجتماعي للمواقع الإخبارية الأولى عالمياً (سي أن أن، ونيويورك تايمز، وبي بي سي بريطانيا، وبي بي سي العالمية، وديلي ميل، والغارديان) بإجمالي 118 مليون زيارة، مقابل 24% لموقع “رديت” بإجمالي 98.6 مليون زيارة، و23% لـ”فيسبوك” بإجمالي 91.8 مليون زيارة، و14% لموقع “يوتيوب” بإجمالي 54.6 مليون زيارة، وذلك وفقاً لإحصاءات موقع (Similar web) بين يونيو وأغسطس 2023، وهو ما يؤكد وجود منصات أخرى جديرة بالاهتمام من ناحية، وكذلك أهمية الالتفات للبُعد النوعي في المحتوى الإخباري المتداول ومنصاته من ناحية أخرى.

وفي ظل الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالمؤسسات الإعلامية، والتي زادت حدتها مع أزمات جائحة “كورونا” والحرب الروسية الأوكرانية، أصبحت هذه المؤسسات تبحث عن مصادر مالية مستدامة، وبات عليها تطوير الاعتماد على مصادر متنوعة لزيارات مواقعها، بل إن سياسات “فيسبوك” قد تكون في جانب منها فرصة للبحث عن البدائل باستخدام أدوات التحليل المُعتمدة على الذكاء الاصطناعي لتطوير فهمها لسمات جمهورها الرقمي وتحسين سياسات النشر من حيث المحتوى وطرق العرض والتوزيع وتوقيتاته والمنصات الأكثر ملاءمة، وتطوير منصات أخرى مثل النشرات البريدية والخدمات الإلكترونية الخاصة، فضلاً عن تنويع منصات الوجود عبر الشبكات الاجتماعية وتطوير محتوى ملائم لمنصات الفيديو، وهو ما قامت به المؤسسات الإخبارية بالفعل التي اتجهت لإنشاء حسابات على “تيك توك” وإنتاج أشكال للعرض أكثر ملاءمة للفئات الشابة.

الخلاصة أن شبكات التواصل الاجتماعي التي أحدثت تغييرات متواترة على مدار عقدين، تشهد هي الأخرى تعديلات وأنماط مستحدثة وتداخلات مع التقنيات الذكية تؤكد دوماً أهمية تقصي مؤشرات الأداء وسمات المستخدمين، مع وضع جودة المحتوى في الاعتبار، دون الاعتداد فقط بمؤشرات التفاعل الكمي التي تصب في العادة لصالح المحتوى ذي الطابع الجدالي الذي يثير مخاوف تأجيج الطائفية والانقسامات والاحتقان المجتمعي، والتي تزداد مع استبعاد مصادر المعلومات الأكثر دقة ومصداقية. وهذا ما يؤكد أهمية بناء علاقة صحية بين منصات التواصل وناشري المحتوى الإخباري والسياسي عبر تطوير نماذج للدخل قائمة على التنوع ودعم الدور العام للناشرين ومراعاة المنصات المحلية والناشئة التي تُعد الأكثر تضرراً من تلك السياسات، بما يعزز دور شبكات التواصل كمساحات حرة أمام الجميع وليس فقط أمام الأكثر متابعة وإثارة للتفاعل بغض النظر عن جودة المحتوى والأفكار.

مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة

اساسي