في ذكرى عدوان تموز 2006.. هل هناك تأثير عميق لكتابتنا عن الحرب تختلف عن الكتابة الأخرى؟ إلى أي مدى يمكن أن تشكل الكتابة جزءاً من ذاكرة الكاتب ووعيه في قراءة تفاصيل لا يستطيع أن يتحدث عنها التاريخ؟
“ثمة من عليه أن يجرّ العارضة/ لإسناد الحائط /من يضع الزجاج في النافذة/ ويركب الباب على المفاصل/ هذا لا يمكن تصويره/ ويحتاج إلى سنوات/ الكاميرات كلها ذهبت/ إلى حرب أخرى”. بهذه الكلمات، تصف الشاعرة البولندية شيمبورسكا الكتابة عن الحرب أو وصف الحرب، وكأننا نكتب لا لنؤرخ الخراب الذي حصل، بل لنعيد الأشياء إلى مكانها، أو نأخذ صورة نادرة لها لم تأخذها الكاميرا، وهو ما يحتاج إلى سنوات، كما تقول.
في ذكرى عدوان تموز 2006 على لبنان، نسأل أسئلة كثيرة عما يسمى بــ”أدب الحرب” شعراً ورواية. كانت ولا زالت هذه الأسئلة في أذهان الشعراء والكتاب وهم يكتبون عن تجاربهم في الحروب. ربما تأتي الكتابة عن الحرب في لحظات نسجل فيها ما حدث، وأحياناً نتجاوز تلك اللحظات للكتابة عن ألم لا ينتهي حتى بعد الحرب، فيكون أثرها واضحاً في اللغة، من دون أن نميز، أو أن نصنف أنها كتابة عن الحرب.
لكن، كما يقول جاك لانسيير في “سياسة الأدب”، إنَّ تعبير سياسة الأدب هو أن يمارس الأدب السياسة بوصفه أدباً، فهناك الكثير من الكتابات التي تصنف خارج أدب الحرب، ولكنها تتحدث عن الألم والظلم والعدالة والحرية، لكن أسئلتنا هنا: هل هناك تأثير عميق لكتابتنا عن الحرب تختلف عن الكتابة الأخرى؟ إلى أي مدى يمكن أن تشكل الكتابة جزءاً من ذاكرتنا ووعينا في قراءة تفاصيل لا يستطيع التاريخ نفسه أن يتحدث عنها؟
نحن لا ننسى مثلاً رواية “الحرب والسلم” لتولستوي التي تركز على حرب نابليون على روسيا، والتي جعلت النقاد يقفون حائرين: هل يعتبرونها رواية أم عملاً تاريخياً، ما جعل تولستوي يعلن أن روايته ليست عملاً تاريخياً، لأنه يصور الحالة الجوانية للبشر في هذه الأوقات، فأخرجت القول التاريخي إلى القول الفني، لأنه ركز في سرده على الأفراد، وليس على الجماعات.
هذا تماماً ما يصوره ارنست همنغواي في “وداعاً للسلاح”؛ ففي هذه الرواية أيضاً نقد للحرب وكأنها موقف ضدها، فهل بالضرورة يكون الأدب مثلاً موقفاً ضد الحرب؟ وهل سيصير رديئاً إن كان يعبر عن القضايا الكبرى؟ وخصوصاً أن هناك دائماً من يتهم الشعراء بأنهم بعيدون ومنشغلون عن هموم عالمهم، وقد أصبحت قصائدهم في مكان آخر.
حول هذه الأسئلة، أكد الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين الذي كتب 3 قصائد أثناء حرب تموز، أنه لا يملك سوى الكلمات في تلك اللحظات الاستثنائية، فيقول: “إنها الحرب /ما حيلتي/ليس في قدرتي أي شيء لأمنعها/ولست قوياً كما قد يخيل لي/كي أضيف إلى نارها جمرة واحدة/ أنا الكلمات ..ا ل ك ل م ا ت”.
ويضيف في معرض حديثه عن الحرب والكتابة في زمن الحرب: “العلاقة بين القصيدة والواقع والأحداث التاريخية علاقة مركبة، وبمقدار ما يكون الحدث ضخماً، فإن التحدي يصبح أكبر، لكن سيان، لو تحدث الشاعر عن دخان السيجارة أو عن حرب تموز. الأساس هو النص الشعري وخصوصيته وجودته”.
سألت الميادين الثقافية أيضاً شاعرة وشاعراً من لبنان عاشا تفاصيل العدوان، وطرحت عليهما تلك الأسئلة وعما إذا كتبا شيئاً عنها.
الشاعر اللبناني محمد ناصر الدين، ابن قرية سجد الجنوبية، أجاب ليخبرنا عن كتابته أثناء الحرب، فقال: “كتبتُ عن حرب تموز، لأنها كانت تعنيني بكل تفاصيلها: بيتنا الذي تركناه في الجنوب في أمانة شجرة التين والعصفور، علّهما يحجبان عنه الطائرة التي ستهدمه للمرة الثالثة، النهر الذي تربيت عليه في طفولتي تحت جبل الرفيع الذي يحمل زعتراً ومقاتلين، وتفاصيل النزوح والهجرة الى بيروت: أبي المريض بمرض عضال، ومسكننا المؤقت فوق أعلى تلة في الأشرفية، نراقب الحمم، وتنزل فوق الضاحية. أمران لا أنساهما في الحرب: اتصال شخص بي ليقول إن بيتنا في بئر العبد تهدّم، فأبصرت دمعة في عين أبي. توغلت في الضاحية سراً، وسحبت لأبي كتاب “خطط جبل عامل” من المكتبة. الأمر الثاني هو رفيق طفولتي مازن شعيتو الذي استشهد على تل مسعود في بنت جبيل، على بعد خطوتين من فلسطين. كل هذه التفاصيل اختمرت في ذاكرتي لأكتبها في ما بعد قصصاً قصيرة وقصائد في مجموعاتي الشعرية كلّها”.
وأضاف: “الحرب لحظة مكثفة تحضر فيها كل التجارب الانسانية، ويكون الموت وسؤاله الذي هو مبعث الديانات والفنون والأساطير حاضراً بقوة. لذلك، يبدو أدب الحرب متصدراً الروايات والقصص والأشعار. أكتب عن الحرب، ولا أريدها أن تعود، وليت أدبها يترك واجهات المكتبات يوماً لأدب الأطفال أو العطل الصيفية أو الحب”.
أما ابنة مدينة بعلبك الشاعرة اللبنانية رنيم ضاهر، فقالت لنا: “يرتبط الأدب بالحرب منذ صراع الله مع الشيطان الذي تجلى بنسج القصص والأشعار والأساطير حول الحرب الأولى في السماء قبل انتقالها إلى الأرض مع قابيل وهابيل. كل الصراعات التي خاضتها البشرية صاغها الأدب، سواء في الرواية أو الشعر وباقي الفنون. مشاهد العراك والقلق والجوع وفقدان القيم وغيرها من المشاعر السقيمة الناتجة من فوضى الحروب، والتي جسدها الفن السابع الذي نقل الكثير من الأعمال الأدبية إلى الشاشة، ليذكر “عالم ما بعد الحرب” أسمالها السوداء التي جرت الإنسانية بفظاظة نحو الهاوية”.
وتابعت: “لم أكتب عن حرب تموز 2006، رغم أنها الحرب الوحيدة التي عايشتها، أو ربما مرت سهواً في إحدى القصائد، أي بطريقة غير مباشرة. بالنسبة إليّ، العراك مع اللّغة حرب من نوع آخر، فغالباً ما تظهر الأحداث مُتخفية في شعري، فحتى لو لم أتحدث عن دبابة أو مدفع أو مجزرة، لكنني في أكثر من نص ذكرت الحزن والتشرد والصقيع، وربما الندم، وكلها مشاعر صادمة ناتجة من صراع النفس مع النفس والآخر. كلها تظهر مواربة من خلال جمل مصدعة ومبتورة الأطراف”.
تغريد مروان عبد العال – الميادين