لعقود طويلة، توقع وادي السيليكون اللحظة التي ستأتي فيها تكنولوجيا جديدة وتغيّر كل شيء، حيث يتحد البشر مع الآلة، للأفضل غالبًا لكن ربما للأسوأ، وينقسم التاريخ لما قبل ذلك وما بعده، وسيكون اسم هذه الحقبة: التفرد.
قد يحدث الأمر بطرق مختلفة، أحد الاحتمالات أن يضيف الناس قوة المعالجة الحاسوبية لذكائهم الفطري ليصبحوا نسخًا أقوى من أنفسهم، أو ربما تصبح الحواسيب أكثر تعقيدًا حيث تستطيع التفكير حقًا بما يخلق عقلًا عالميًا.
في كلتا الحالتين، ستكون النتائج سريعة وقاسية وغير قابلة للإلغاء، حيث تستطيع آلة خارقة ذاتية الإدراك أن تصمم تحسيناتها الخاصة أسرع من أي مجموعة علماء، ليقع انفجارًا في الذكاء، بما يعني أن عقودًا من التقدم قد تحدث في مجرد أعوام أو شهور، ويصبح التفرد مقلاعًا للمستقبل.
سبب الذكاء الاصطناعي اضطرابًا في التكنولوجيا والتجارة والسياسة أكثر من أي شيء في الذاكرة الحديثة، وبالاستماع إلى المزاعم المتطرفة والتأكيدات الجامحة لوداي السيليكون، يبدو أن الجنة الافتراضية الموعودة أصبحت أخيرًا في متناول اليد.
يصف سوندار بيشاي – أحد المديرين التنفيذيين لجوجل – الذكاء الاصطناعي بأنه أعظم من النار والكهرباء وأي اختراع تم في الماضي، أما ريد هوفمان – ملياردير مستثمر – فيقول: “القوة اللازمة لصنع تغيير إيجابي في العالم على وشك أن تحصل على أكبر دفعة لها مطلقًا”.
كما يقول المؤسس المشارك لمايكروسوفت بيل غيتس: “الذكاء الاصطناعي سيغير طريقة العمل والسفر وتلقي الرعاية الصحية والتواصل مع بعضنا البعض”.
أصبح الذكاء الاصطناعي منتج وادي السيليكون الجديد الذي يتجاوز الطلب، لكن هناك جانب مظلم، فشركات التكنولوجيا تقدم السيارات ذاتية القيادة مع تحذير بأنها قد تنفجر قبل أن تصل إلى المتجر.
قال إيلون ماسك – مدير تويتر وتسلا – الشهر الماضي: “وصول الذكاء الاصطناعي العام يعني التفرد، لأنه من الصعب للغاية التنبؤ بما قد يحدث بعده، سنصبح في عصر الوفرة، لكن هناك احتمالية أن يدمر ذلك الإنسانية”.
يعد سام ألتمان – المدير التنفيذي لشركة “OpenAI” التي أثارت حالة من الجنون بسبب برنامج الدردشة “ChatGPT” الخاص بها – من أكبر مشجعي الذكاء الاصطناعي، يرى ألتمان أن الذكاء الاصطناعي أكبر قوة للتمكين الاقتصادي، وسيصبح الكثير من الناس أثرياء بطريقة لم نشهدها من قبل، لكن يقول أيضًا إن إيلون ماسك – المنتقد للذكاء الاصطناعي وبدأ أيضًا شركة لتطوير وسيط بين الدماغ والحاسب الآلي – قد يكون محقًا.
وقع ألتمان على خطاب مفتوح أصدره مركز “AI Safety” – وهو منظمة غير ربحية – يقول: “تخفيف مخاطر الانقراض بسبب الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون أولوية عالمية تمامًا مثل الجائحات والحرب النووية”، كما وقع آخرون على الخطاب ومن بينهم زملاء ألتمان في شركته وعلماء حاسب آلي من مايكروسوفت وجوجل.
يبدو أن سفر الرؤيا – حرب نهاية العالم – أمر مألوف، بل محبب في وداي السيليكون، فقبل عدة سنوات بدا أن كل مدير تقني يملك مخبأ لنهابة العالم في مكان بعيد لكن يسهل الوصول إليه.
في 2016 قال ألتمان إنه يجمع البنادق والذهب ويوديد البوتاسيوم والمضادات الحيوية والبطاريات والمياه وأقنعة الغاز من الجيش الإسرائيلي، وقطعة كبيرة من الأرض في منطقة “Big Sur” في كاليفورنيا يستطيع الطيران إليها، لقد تسببت جائحة كورونا في حاجتهم لأن يشعروا بالحماية لفترة من الوقت.
يقول بالدر بجارناسون، مؤلف كتاب “The Intelligence Illusion” (وهو فحص نقدي للذكاء الاصطناعي): “إنهم يحبون الاعتقاد بأنهم أشخاص عاقلون يقولون تعليقات حكيمة، لكنهم أشبه بالرهبان في عام 1000 عندما يتحدثون عن نشوة الطرب، الأمر مخيف نوعًا ما”.
جذور التفوق
تعود جذور فكرة “التفرد” إلى جون فون نويمان، وهو عالم حاسب آلي متفرد تحدث في خمسينيات القرن الماضي عن أن التقدم المتسارع للتكنولوجيا سينتج عنه بعض التفرد الأساسي في تاريخ السبق.
كان إرفينغ جون جود – عالم الرياضيات البريطاني الشهير الذي ساعد في حل شفرة جهاز إنجما الألماني في حديقة بلتشلي خلال الحرب العالمية الثانية – مؤيدًا لذلك أيضًا، فقد كتب في عام 1964 “تعتمد نجاة المرء على الإنشاء المبكر لآلة فائقة الذكاء”.
استشار المخرج ستانلي كوبريك العالم جود بشأن الحاسب الآلي “HAL” الذي تحول من حميد إلى خبيث في فيلمه “2001: A Space Odyssey”، هذا الأمر مثال قديم على الحدود المسامية بين علوم الحاسب الآلي والخيال العلمي.
يعتقد هانز مورافيك – الأستاذ المساعد بمعهد “Robotics” بجامعة كارنيغي ميلون – أن الذكاء الاصطناعي سيكون هبة ليس فقط للأحياء، بل للأموات أيضًا الذين سيخضعون لهذا التفرد، فقد كتب في كتابه “Mind Children: The Future of Robot and Human Intelligence” (أطفال العقل: مستقبل الإنسان الآلي والذكاء البشري) “سنحظى بفرصة إعادة إحياء الماضي والتفاعل معه في الحقيقة وبشكل مباشر”.
في السنوات الأخيرة، كان المخترع ورائد الأعمال راي كورزويل أكبر أبطال التفرد، كتب كورزويل كتابه “The Age of Intelligent Machines” (عصر الآلات الذكية) عام 1990، وكتاب “The Singularity Is Near” (التفرد قريب) عام 2005، والآن يكتب كتابه “The Singularity Is Nearer” (التفرد أكثر قربًا).
بنهاية العقد، يتوقع كورزويل أن تتمكن الحواسيب من اجتياز اختبار “Turing Test” (اختبار المحاكاة)، ولن يمكن تمييزها عن البشر، ووفقًا لحساباته، فبعد 15 عامًا من ذلك سيأتي التفوق الحقيقي، وهي اللحظة التي تصبح فيها الحوسبة جزءًا منا، ويزداد ذكاؤنا مليون ضعف، في ذلك الوقت سيكون عمر كورزويل 97 عامًا، لكنه يخطط بمساعدة الفيتامينات والمكملات أن يعيش ليرى ذلك.
بالنسبة لبعض نقاد التفرد، فهم يرون الأمر بأنه محاولة فكرية مريبة لتكرار النظام العقائدي للدين المنظم في مملكة البرمجيات، يقول رودني بروكس – المدير السابق لمعمل علوم الحاسب والذكاء الاصطناعي بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا – “إنهم يريدون حياة أبدية دون أن يضطروا للإيمان بالله”.
يغذي جدل التفرد اليوم ابتكار نموذج اللغة الضخم، وهو ذلك النوع من الذكاء الاصطناعي الذي يدير برامج الدردشة الآلية، فبمجرد أن تبدأ الحديث مع أحد تلك النماذج فإنه يقدم إجابات سريعة ومتماسكة وبدرجة معقولة من الوضوح أحيانًا.
يقول جيري كابلن – رائد أعمال ومؤلف كتاب “الذكاء الاصطناعي: كل ما تحتاج إلى معرفته” -: “عندما تسأل سؤالًا فإن هذه النماذج تفسر ما يقصده وتقرر ما يجب أن تعنيه الإجابة ثم تترجم ذلك إلى كلمات، إذا لم يكن ذلك تعريف الذكاء العام فماذا هو تعريفه؟”.
قال كابلن إنه كان متشككًا بشأن بعض العجائب مثل السيارات ذاتية القيادة والعملات المشفرة، وعندما وصل الذكاء الاصطناعي كانت لديه نفس الشكوك، لكنه أصبح مقتنعًا الآن، ويضيف “إذا لم يكن هذا هو التفرد، فإنه بالتأكيد تفرد ما: خطوة تقنية تحويلية من شأنها أن تسرّع مجموعة من الفنون والعلوم والمعرفة البشرية على نطاق واسع وتخلق بعض المشكلات”.
يرى النقاد أن النتائج المذهلة لنماذج اللغة بعيدة كل البعد عن الذكاء العالمي الهائل الذي وعد به “التفرد”، وجزء من مشكلة فصل الدعايا عن الواقع هو أن محركات هذه التقنية أصبحت خفية، فشركة “O penAI” التي بدأت كمشروع غير ربحى يستخدم شفرة مفتوحة المصدر أصبح مشروعًا ربحيًا يقول النقاد إنه صندوق أسود، كما أن جوجل ومايكروسوف يقدمان أيضًا رؤية محدودة.
تُنفذ الكثير من أبحاث الذكاء الاصطناعي من شركات تستفيد الكثير من النتائج، فالباحثون في مايكروسوفت التي استثمرت 13 مليار دولار في “OpenAI” نشروا ورقة في أبريل/نيسان تقول إن النسخة الأولية من نموذج “OpenAI” الأخير تكشف العديد من سمات الذكاء مثل التجريد والإدراك والرؤية والتشفير وفهم الدوافع والمشاعر البشرية.
يقول ريلان شايفر – طالب الدكتوراه بكلية علوم الحاسب، جامعة ستانفورد – إن بعض الباحثين في الذكاء الاصطناعي رسموا صورة غير دقيقة لكيفية عرض نماذج اللغة الكبيرة تلك للقدرات الناشئة، وهي قدرات غير مفسرة لم تكن واضحة في النسخ الأصغر.
فحص شايفر مع اثنين من زملائه في ستانفورد – براندو ميراندا وسانمي كويجو – سؤال الورقة البحثية التي نُشرت الشهر الماضي، وتوصلوا إلى أن الصفات الناشئة كانت وهمًا سببته أخطاء في القياس، بما يعني أن الباحثين كانوا يرون ما يرغبون في رؤيته.
حياة أبدية وأرباح أبدية
في واشنطن ولندن وبروكسل أثار المشرعون ضجة بشأن فرص ومشكلات الذكاء الاصطناعي وبدأوا في الحديث عن تنظيمه، يسعى ألتمان إلى صرف الانتباه مبكرًا عن الانتقادات والترويج للذكاء الاصطناعي بأنه “راعي التفرد”.
يتضمن ذلك الانفتاح على التنظيم، لكن ما سيبدو الأمر عليه حقًا ما زال غامضًا، فوادي السيليكون يعتقد بشكل عام أن الحكومات أبطأ وأغبى من الإشراف على تلك التطورات التكنولوجية السريعة.
قال إيريك شميدت، الرئيس التنفيذي السابق لجوجل في برنامج “Meet the Press” للحديث عن قضية التنظيم الذاتي للذكاء الاصطناعي: “لا يمكن لأحد في الحكومة أن يفهم ذلك بشكل صحيح، لكن الصناعة نفسها تفهم ذلك غالبًا”.
يوصف الذكاء الاصطناعي الآن بأنه كالتفرد لا رجعة فيه، فقد قال ألتمان وبعض زملائه: “يتطلب إيقاف الذكاء الاصطناعي شيئًا شبيهًا بنظام مراقبة عالمي، وحتى نجاح ذلك النظام غير مضمون”.
لكن الحديث لا يدور كثيرًا حول الأرباح التي ستُجنى من هذه النقلة العالمية، فرغم كل الحديث عن كون الذكاء الاصطناعي آلة منتجة للثروة المطلقة، فإن الأشخاص الذين يجنون أرباح ذلك هم نفسهم الأشخاص الأثرياء الآن بالفعل.
فقد ارتفعت القيمة السوقية لمايكروسوفت بمقدار نصف تريليون دولار العام الماضي، أما شركة “Nvidia” التي تصنع الرقائق التي تدير أنظمة الذكاء الاصطناعي أصبحت مؤخرًا واحدة من أكثر الشركات العامة قيمة في أمريكا، عندما قالت إن الطلب على تلك الرقائق يزداد بشكل صاروخي.
قال ألتمان في تغريدة له: “الذكاء الاصطناعي هو التقنية التي كان العالم بحاجة إليها دائمًا”، لكنه بالتأكيد التقنية التي كان عالم التكنولوجيا بحاجة إليها وقد وصل في الوقت المناسب تمامًا، في العام الماضي كان وادي السيليكون يعاني من تسريح العمالة وارتفاع معدل الفائدة، بينما وقعت العملات المشفرة في شبكة الاحتيال وخيبة الأمل.
“اتبع المال”، هذا ما قاله تشارلز ستروس المؤلف المشارك لرواية “The Rapture of the Nerds” وهي رواية كوميدية مبنية على التفرد، ومؤلف كتاب “Accelerando” وهو محاولة أكثر جدية لوصف ما ستبدو عليه الحياة قريبًا.
يقول ستروس: “الوعد الحقيقي هنا هو أن الشركات ستصبح قادرة على استبدال الوحدات الفرعية البشرية البطيئة الباهظة ذات الأخطاء لمعالجة المعلومات ببرامج يمكنها تسريع الأمور وخفض النفقات”.
كان التصور الدائم للتفرد بأنه سيكون حدثًا كونيًا مذهلًا للعقل، وربما لا يزال كذلك، لكنه قد يظهر أولًا بشكل أساسي – بفضل هوس وادي السيليكون اليوم – كأداة لخفض عدد الشركات الأمريكية، وعندما تتسابق لإضافة التريليونات إلى قيمتك السوقية، فيمكن للجنة أن تنتظر.
ديفيد ستريتفيلد – نيويورك تايمز
ترجمة حفصة جودة – نون بوست